السبيل إلى العزة والتمكين

شرح كتاب فضائل القرآن من السنن الكبرى لإمام النسائي - الدرس الرابع عشر

            بسم الله الرحمن الرحيم

شرح كتاب

فضائل القرآن
من كتاب السنن الكبرى للإمام النسائي
(رحمه الله)

للشيخ عبد الرزَّاق البدر 
(بارك الله فيه وفي علمه)

الدرس الرابع عشر
مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ



بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد،
فيقول الإمام أبو عبد الرحمن النسائي -رحمه الله تعالى-في كتابه السنن الكبرى: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ غَزْوَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ سُورَةَ النِّسَاءِ» قُلْتُ: أَوَلَيْسَ عَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أَمَةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فَغَمَزَنِي غامِز فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا عَيْنَاهُ تَهْمِلَانِ))"


بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين وأشهد ألَّا إلاه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله –صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا شئننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، أما بعد ،
قال المصنِّف –الإمام النسائي (رحمه الله تعالى )- : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، هذه الترجمة عقدها –رحمه الله تعالى – لبيان أن سماع القرآن من الغير جاءت به السنَّة الفعلية في هدي نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ، وسماع القرآن من الغير –ولاسيما إذا كان التالي حسن الصوت بالقرآن مرتِّلاً له ترتيلاً محسناً في آداءه ، خاشعاً في تلاوته – لا شك أن ذلك له آثاره الإيمانية على من يستمع إلى تلاوته ، والسماع عند التلاوة ينبغي أن يكون بإنصات ، فإن لم ينصت لم ينتفع ولم يتحقق الأثر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] ، فالانتفاع إنما يكون بشهود القلب وحضوره ، وحُسن الاستماع ، والتأمُّل فيما يستمع إليه من كلام الله –سبحانه وتعالى -  وما من ريب أن هذا السماع لكلام الله على هذا الوصف له أثره العظيم وآثاره الإيمانية على من يستمع لكلام الله عز وجل .

أورد  -رحمه الله-  حديث بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قَالَرسولاللهصلّىاللهعليهوسلم  : (قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ سُورَةَ النِّسَاءِ» قُلْتُ: أَوَلَيْسَ عَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) ولهذا القراءة هنا ليست قراءة عرض ،  من أجل التقويم أو التصحيح ، وإنما قراءة سماع وتدبُّر وتأمل في كلام الله – سبحانه وتعالى –،  النبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يقرأ لكي يستمع من غيره لكلام الله عز وجل ، فيتأمَّل ويتدبر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ:﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾، قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - :
فغمزني غامزأي : أحد بجنبي أو بجواري،
فرفعت رأسي فإذا عيناه –أي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- تهملان –أي يسيل الدمع من عينيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه - ، وهذا يُستفاد منه أن سماع القرآن من الغير –إذا أحسن الغير في الآداء تلاوةً وترتيلاً لكلام الله – لاشك أن له أثره الإيماني على السامع ، ولهذا كان يحصُل من الصحابة في بعض مجالسهم –رضي الله عنهم – أن يطلبوا من واحد منهم مثل أبو موسى الأشعري ، وقد أوتي مزماراً من مزامير آل داوود ، أو غيره – يطلبون منه أن يتلوَ كلام الله سبحانه وتعالى ، ويستمعون إليه متأمِّلين ومتدبِّرين في كلام الله –عز وجل .


قال رحمه الله تعالى :الْبُكَاءُعِنْدَقِرَاءَةالْقُرْآن
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أَمَةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] غَمَزَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ "

ثم قال – رحمه الله تعالى – البكاء عند قراءة القرآن ، ولا شك أن قراءة القرآن أو الاستماع إليه من الغير بتأمُّل يثمر في العبد آثاراً إيمانية وخشوعاً ، وإذا مرَّ بآيات الوعيد وتحرَّك الإيمان في قلبه ، بكى من خشية الله وخوفاً من عقابه –سبحانه وتعالى- وإذا قرأ الآيات التي فيها ذكر النعيم والثواب والجنَّة وما أعدَّ الله –سبحانه وتعالى- فيها من عظيم الثواب وجميل المآب ، يتأثَّر ويبكي شوقاً لفضل الله ونعمته –سبحانه وتعالى - فالقراءة وكذلك السماع من الغير إذا كانت عن تدبُّر لما يقرأ أوتدبُّر لما يسمع من كلام الله – سبحانه و تعالى – هذه لها آثارها الإيمانية على العبد ، وأورد في هذه الترجمة الحديث المتقدِّم نفسه – حديث بن مسعود – وسيُكرر -رحمه الله - الحديث في التراجم الآتية وفي كل ترجمة يستنبط منه فقهاً ، وهذا من فقه النسائي -رحمه الله – فقه المتقدِّمين في التراجم التي يعقدونها في مصنَّفاتهم ، ولهذا الحديث الواحد تراه قد يذكره في عشرين موضعاً أو خمسة عشر موضعاً ، أو عشرة مواضع ، بحسب الاستنباطات الفقهية والمعاني الفقهية التي يستظهرها من الحديث .

أورد حديث بن مسعود نفسه ، وموضع الشاهد منه : (فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان ) أي أنه عليه الصَّلاة والسلام بكى في هذا الموضع ودمعت عيناه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ، وهذا الأثر هو الذي كان يحصل من النبي عليه الصلاة والسلام  ومن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ، عند التأثُّر من السماع لكلام الله تبارك وتعالى يحصل منهم البكاء ، يحصل منهم دمعة العين ، يحصل منهم نحو ذلك تأثراً لكلام الله عز وجل ، أما الغشي عند سماع القرآن والصعق والإغماء فهذه أمور لم تكن موجودة عند الصحابة ولا أيضاً موجودة عند من اتبعهم بإحسان ، ولهذه جاء في بعض الآثار أن بن عمر -رضي الله عنه- ذُكِر له أن رجلاً إذا سمع القرآن يُغشى عليه – يُغمى عليه ، يعني من شدة التأثر يُغمى عليه أي إذا كان واقفاً يسقط من شدة تأثره – فقال رضي الله عنه : (إنَّا لنخشى الله وإذا سمعنا القرآن ما نسقط )، إنَّا : لا يقصد نفسه وإنما يقصد بها الصحابة ، وما رآه من هدي الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ، فقال عنهم : (إنَّا لنخشى الله وإذا سمعنا القرآن ما نسقط) يعني هذه أمور وجدت عند المتكلِّفين فيما بعد ؛ ولهذا الإمام بن سيرين – رحمه الله – ذُكر له جماعة هذه حالهم –يقولون عنهم أنهم إذا سمعوا القرآن يُغشى عليهم ويسقطون ، قال -رحمه الله تعالى- : ( بيننا وبينهم أن يقوم واحد منهم على حائط –على جدار – ونقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن سقط فهو كما قال ) مشيرا بذلك أنه إذا كان على جدار سيتمالك نفسه لأنه إن سقط هلك فسيتمالك نفسه ولن يقع في التكلّف الذي يحصل منه وهو واقف على الأرض .
ولهذا أيضاً أنس بن مالك سُئل عن قوم إذا سمعوا القرآن يُصابون بالغُشي ، قال: ( هذا فعل الخوارج ) الحاصل أن الصحابة -رضي الله عنهم- ومن اتبعهم بإحسان مثل هذه التكلّفات –الصعق والزعق والغُشي والإغماء وما إلى ذلك –هذه كلها لم تكن موجودة في الصحابة الكرام ، نعم تخشع قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم ويبكون من خشية الله ، هذه كلها تحصل ، أمَّا التكلُّفات فهذه إنما وُجدت عند المتأخرين المتكلِّفين .



القارئ: قال رحمه الله تعالى :قول المُقرئ للقارئ : حسبنا
قال : أخبرنا عبدة بن عبد الله ، قال أخبرنا حسين عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : (إقرأ فاستفتحت النساء حتى انتهيت إلى قول الله عز وجل : ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا  ﴾، قال : فدمعت عيناه، وقال : حسبنا)
قال –رحمه الله تعالى- :قول المُقرئ للقارئ : حسبك
قال : أخبرنا سويد بن نصر ، قال : أحبرنا عبد الله عن سفيان عن سليمان عن إبراهيم عن عُبيدة عن بن مسعود قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : اقرأ علي ، فقلت أقرأ وعليك أُنزل؟ ، قال إني أحب أن أسمعه من غيري ، فافتتحت سورة النساء ، فلمَّا بلغت ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ﴾، قال : فرأيت عيناه تذرفان ، فقال لي : حسبك)
قال :-رحمه الله تعالى -:قول المقرئ للقارئ : أمسك
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحي بن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله ، وبعض الحديث عن عمرو بن مرَّة قال : قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : (اقرأ علي ، فقلت أقرأ وعليك أُنزل؟ ، قال إني أحب أن أسمعه من غيري ،فقرأت حتى بلغت ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ﴾، قال :أمسك ، وعيناه تذرفان)

هذه الأقوال الثلاثة –قول المقرئ للقارئ (حسبنا) ، وقول المقرئ للقارئ : (حسبك) ، وقول المقرئ للقارئ (أمسك ) ، حسبنا ، حسبك ، أمسك هي في مؤدَّاها تؤدي إلى معنى واحد وهو طلب التوقف عن القراءة أو الاكتفاء بهذا القدر من القراءة .
فقوله :(حسبنا) : أي يكفينا هذا القدر الذي تلوته .
وقوله في الرواية الأخرى (حسبك) أي يكفيك تلاوةً ، ويكفيك هذا القدر مما تلوت من القرآن .
وقوله: (أمسك) في هذه الرواية أي أمسك عن التلاوة وتوقَّف.
والحاصل أن هذه العبارات وكذلك ما جاء في معناها :يكفينا أو يكفي أو يكفي هذا القدر أو نحو ذلك من العبارات التي تؤدي إلى هذا المعنى،  كلها لا بأس إذا قرأ قدر من القرآن ورغب السامع ، المقرئ أو الحاضرين من السامعين الاكتفاء بذلك القدر فقالوا : أمسك ، أو قالوا : حسبنا :أي هذا القدر الذي تلوت علينا ، أو حسبك: أي يكفيك هذا القدر الذي قرأته ، فهذه الألفاظ كلها لا بأس من استعمالها في هذا الموضع ، وهي ألفاظ جاءت في روايات هذا الحديث حسب ما ساقه المصنِّف-رحمه الله تعالى .

قال : رحمه الله تعالى : قول المُقرئ للقارئ : أحسنت
أخبرنا علي بن خشرم ، قال أخبرنا عيسى عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه ، قال: (بينا أنا بالشام بحمص ، فقيل لي : إقرأ سورة يوسف ، فقرأتُها فقال رجل : ما كذا أنزلت ، فقلتُ : والله لقد قرأتها على رسول الله ﷺ فقال : أحسنت، فبينا أنا أكلِّمه إذ وجدتُ ريح الخمر ، قلت أتكذِّب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ والله لا تبرح حتى أجلدك الحَد)

قال : رحمه الله تعالى : قول المُقرئ للقارئ : أحسنت: أي عند ختم القدر الذي تلاه من كتاب الله –عز وجل- إذا قال المُقرئ  للقارئ : "أحسنت" فإن هذه اللفظ أيضاً مما جاءت به السنَّة عن النبي الكريم ﷺ ، وهذه الكلمة تكررت قولاً من النبي ﷺ قالها لغير واحد من الصحابة ، ومرَّ معنا في قصَّة أبي ، قال له النبي عليه الصلاة والسلام : (أحسنت)، فهي كلمة تكررت في مثل هذا المقام من النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، فإذا استمع المقرئ غلى القراءة من القارئ المُجيد المحسن في قراءته ، فإنه يحسن به أن يقول له في هذا المقام : "أحسنت " كما قالها النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المقام.
وأورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال : (بينا أنا بالشام بحِمص ، فقيل لي : إقرأ سورة يوسف ، فقرأتُها: وهذا ماضٍ على الهدي والصحابة كانوا على هذه الطريقة يطلبون من أحدهم أن يقرأ عليهم القرآن فيجلسون يستمعون وينصتون لكلام الله تبارك وتعالى فيزدادون بذلك إيماناً ، إذ إن سماع القرآن وتلاوته من أعظم ما تحصل به زيادة الإيمان كما قال الله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيـمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:2-4]
قال : (فقرأتُها ، فقال رجل : ما كذا أنزلت): أي هذه السورة
(فقلتُ) :القائل هو عبد الله بن مسعود
(والله لقد قرأتها على رسول الله ﷺ فقال : أحسنت): يعني هذه التلاوة التي أسمعتكم قرأتها على رسول الله ﷺ فقال : أحسنت.
(فبينا أنا أكلِّمه إذ وجدتُ ريح الخمر): يعني هذا الرجل الذي يقول: ما هكذا أُنزلت ، رجل مخمور
فقال بن مسعود -رضي الله عنه-:(قلت أتكذِّب بكتاب الله وتشرب الخمر؟)أي جمعت بين سوءتين ، جمعت لنفسك بين قبيحتين سيئتين ، تشرب الخمر وتُكذِّب بكتاب الله ؛ لأن بن مسعود يقرأ القرآن قراءة صحيحة ، وسمعها منه النبي ﷺ السورة نفسها وقال له : "أحسنت" ، ثم يأتي هذا الرجل ويقول : ما هكذا أُنزلت" هذا تكذيب! فجمع بين سوءتين : التكذيب بالمنزَّل ؛ لأنها هكذا أُنزلت، والنبي ﷺ سمعها من بن مسعود وقال له : "أحسنت" فهي هكذا أُنزلت ، وهذا الرجل يقول : ما هكذا أنزلت، فهذا تكذيب، وأيضاً كان شارب خمر
لعل من فوائد هذا الحديث : أن الخمر أم الخبائث ، -سبحان الله- تجمع لشاربها الخبائث كلها ، حتى لو كان الرجل في نفسه –مثلاً- يتعفف أو يتجنَّب بعض المعاصي ، إذا شرب الخمر يزول عنه كل هذا ؛لأنها تجمع له الخبائث،اذا شرب الخمر جمعت له الخبائث وجمعت له السوءات كلها، ولهاذا جاءوصفها في الحديث بأنها ام الخبائث لأنها تجمع الخبائث حتى لو كان الرجل في نفسه يعني بعض المحرمات لا يفعلها، اذا شرب الخمر فعلها وفعل ما هو أسوء منها وأشد، وهذا مثال رجل يسمع من صاحبي جليل القران الكريم ثم لما يفرغ من القراءة الجميلة الطيبة الحسنة يقول ما هكذا أنزلت، فالحاصل ان هذا الرجل جمع بين التكذيب وشرب الخمر.
فقال: (والله لا تبرح حتى أجلدك الحَد):قول اجلدك الحد يعني ليس المراد أنه-رضي الله عنه- يباشر جلده بيده وانما يرفع به الى الوالي ويقام عليهالحد في شربه للخمر، شاهد الحديث ان من تلى القرآن وأُستمع إلى تلاوته وانتفع بترتيله فإنه يُقال له : "أحسنت" وهذه اللفظة ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا المقام.



قال –رحمه الله تعالى- :مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلِ طَعْمُهَا خَبِيثٌ وَرِيحُهَا))

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ))
ثم قال –رحمه الله تعالى - :مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، وهذا خير الناس وأفضلهم ، من جمع الله -سبحانه وتعالى- له بين الإيمان وتلاوة القرآن ، والمراد بقراءة القرآن أي المداومة على ذلك والمواظبة على تلاوة كتاب الله -عز وجل- ، فلا يزال يزداد بهذه التلاوة يزداد إيماناً وخيراً وبركةً ، فهذا خير الناس -من جمع الله سبحانه وتعالى له بين الإيمان وتلاوة القرآن-  والناس في هذا الباب أربعة أقسام –كما يأتي تبيانه في الحديث :
1 – من عنده إيمان وتلاوةً للقرآن
2 – من عنده إيمان وليس عنده تلاوة للقرآن، عنده قصور وضعف في هذا الجانب.
3 – من ليس عنده إيمان لكن عنده تلاوة للقرآن
4 – من ليس عنده إيمان وليس عنده أيضاً تلاوة للقرآن.
والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب أمثلة عجيبة جداً في توضيح حال هؤلاء الأقسام الأربعة وذكر الأمثلة من أمور حسية يُشاهدها الناس ويُعاينونها ، ومما يتعلَّق أمورها بالطعم والرائحة –المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأقسام الأربعة يتعلَّق بالطعم والرائحة – أورد المُصنِّف هنا حديث أبي موسى الأشعري ، ويرويه عنه أنس بن مالك فهو من رواية صحابي عن صحابي قال : عن النبي ﷺ ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة) : أو الأترنجة ، والأترجَّة هذه ثمرة معروفة تشبه من حيث الشكل تشبه الليمون الأصفر ولكنها أكبر حجم منه ، ولونهما أشبه بلون البرتقال ، فلونها جميل ورائحتها جميلة ومذاقها طيب، فجمعت بين محاسن عديدة ، وأيضاً ملمسها طيب، فمن حيث الملمس والرائحة والمذاق واللون ، جمعت بين كل هذه المحاسن ، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة) ، ذكر لها عليه الصلاة والسلام وصفين، قال : طعمها طيب ، وريحها طيب .
طعمها طيب :هذا إشارة إلى أن هذا الذي يقرأ القرآن منتفع بالقرآن ومستفيد منه وله أثر ، مثل ما أن هذه الفاكهة لها حلاوة ولها طعم يجده في داخله من يتذوقها ويأكلها ، فإن الإيمان له حلاوة وله طعم يجدها في نفسه من يكرمه الله تبارك وتعالى بتحقيق الإيمان ، كما قال النبي ﷺ :( ذاق طعم الإيمان) ، وقال : (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان) فالإيمان له ذوق وله حلاوة وله طعم ، فمثل هذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ، (طعمها حلو) : وهذا يتعلَّق بإيمانه وعمله بالقرآن.
ريحها طيب:هذه الصفة ترجع إلى ماذا؟ إلى التلاوة للقرآن ، لأن هذا شيء ينبعث من التالي فيستمع الناس ويجدون تذوقاً لسماع هذا القرآن من هذا التالي .
وطعمها طيب : هنا قوله في هذا الحديث : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة) المراد بالمؤمن الذي يقرأ القرآن أي ويعمل به ، فلا يدخل في هذا المثل من يقرأ القرآن ولا يعمل به ، ولهذا جاء في صحيح البخاري في روايته في هذا الحديث من الطريق نفسه الذي ساقه المصنِّف –من طريق يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس عن أبي موسى الأشعري، ذكره البخاري بهذا الإسناد ولفظه في صحيح البخاري: ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعملُ به ) فلابد من هذا القيد لأن الحلاوة لا تكون إلا بالعمل ، كيف يذوق حلاوة القرآن من لا يتأمَّل القرآن ولا يعمل بالقرآن ؟ 
قال :(ومثل المُؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة) أيضاً في صحيح البخاري في الرواية التي أشرت : (مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به) ومعنى يعمل به : مؤمن، يُصلِّي يصوم، يتصدَّق،  يقوم بالواجبات الدينية،  يتجنَّب الأمور التي حرَّمها الله عليه في القرآن، لكنه ما عنده حظ من التلاوة للقرآن والمواظبة على قراءة القرآن فهذا على خير وهو دون الأول فهو على خير ومن أهل السعادة لأن الحديث قسَّم هؤلاء الأربع إلى قسمين :
1 - أهل سعادة
2 - وأهل شقاء
أهل سعادة: هما الأول والثاني، الأول الذي يقرأ القرآن ويعمل به ، وهذا مثله مثل الأترجَّة والثاني هو المؤمن الذي لا يقرأ القرآن ولكنه يعمل بالقرآن مثله مثل التمرة ، والتمرة حلوة الطعم ولكن لا رائحة لها ، فهذا المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فيه حلاوة الإيمان وفيه طعم الإيمان لأنه مؤمن يصوم ويصلِّي ويقوم بالواجبات الدينية ويتجنَّب الأمور التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى عليه ، فهو يؤدِّي ما عليه، فيذوق حلاوة هذا الإيمان ، وإن كان دون الأول ؛ لأن الأول يُحصِّل نصيباً زائداً وقدراً أعظم من ذلك بما أكرمه الله به من مداومة لتلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال: (مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به) –كما في الرواية التي أشرت إليها في صحيح البخاري – مثل التمرة: وهذا المثل لأنه اشتمل على الإيمان ففيه هذه الحلاوة –حلاوة الإيمان – كما إن التمرة مشتملة على الحلاوة حلاوة الطعم ولكن ليس لها رائحة ، فهذا القسم الذي قبله هم السعداء.
القسم الثالث : قال : (ومثل المُنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة) ، والريحانة لها رائحة جميلة ، لكن طعم الريحانة لو أخذ جزء منها ووضعه في فمه وجد طعماً مرَّاً لا يُستساغ من شدَّة مرارته ، وهذا فيه أن المنافق الذي يقرأ القرآن من الداخل خراب ٌ وفساد وخاوي من الإيمان ، وخاوي من الحلاوة ، ليس في قلبه حلاوة ، ليس في جوفه طعم وذوق للإيمان بل هو من الداخل مُرّ أي فساد وخراب ، ليس فيه إيمان ، وهذه التلاوة للقرآن هو لا يتلوها إيمان لأنه الداخل ليس فيه إيمان وإنما يتلوها مراءاةً ولمقاصد ليست لله ولا لطلب رضاه ، لأنه في داخله ليس عنده إيمان –منافق هو – والمنافق هو من يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر ، فإذا تلى المنافق القرآن وكانت تلاوته -مثلاً –حسناً ، صوته – مثلاً- حسن ، فإن مثله مثل الريحانة ، فالريحانة تشم منها رائحة طيبة ، لكن ليس لها أي حلاوة في الطعم بل كلها مرَّة ، وهذا يدل على أن المنافق لا يستفيد من تلاوته شيئاً عند الله حتى لو قرأ القرآن وجمعه وحفظه –مثلاً – وقرأه كثيراً ، ما ينتفع بشيء من ذلك ؛ لأن قاعدة الانتفاع بالعمل غير موجودة وهي : الإيمان ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى : ﴿...وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة:5] ، يدخل في قوله (حبط عمله) تلاوته للقرآن حتى لو أنه أكثر من تلاوة القرآن أو حفظه أو غير ذلك ، لا ينتفع بذلك.
وهذا فيه أن القرآن قد يتلوه من ليس له غرض في تلاوته عند الله –شيء يرجوه عند الله – قد يتلوه شخص ويحرص على –مثلاً- تجويده أو ترتيله أو تزيين تلاوته وليس له غرض في هذه التلاوة في شيء يرجوه عند الله ويطمع فيه عند الله بل يفعل ذلك رياءاً وسمعة وشهرةً ، لا يرجو يذلك شيئاً عند الله -سبحانه وتعالى- ، ولهذا ستأتي الترجمة التي بعد هذه موضحةً هذا المعنى ، وأن في الناس من يقرأ القرآن رياءاً ، فهو لا يريد بالقراءة وجه الله سبحانه وتعالى ، ومن كان كذلك فإنه من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة –نسأل الله العافية-.

قال :(ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن) لا إيمان ولا قراءة للقرآن
قال : (كمثل الحنظلة) الحنظل مر الطعم وليس له رائحة ، وهي في قول عدد من أهل العلمة هي الشجرة الخبيثة التي ضربها الله مثلاً للكافر في سورة إبراهيم قال : ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم:26]
* الحاصل أن هذا الحديث فيه :
- فضل حامل القرآن العامل به وعظيم ثوابه عند الله
- وفيه أيضاً أهمية ضرب الأمثال ؛ لأن من فائدتها أنها تجعل الأمور المعنوية بمثابة الأمور المشاهدة المحسوسة الملموسة .
- أيضاً من فوائد هذا الحديث أن مقصود التلاوة للقرآن هو العمل به ، فالقرآن إنما أُنزل ليُعمل به .

قال -رحمه الله تعالى-: مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا» قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: «قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ» قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ: «فُلَانٌ جَرِيءٌ» فَقَدْ قِيلَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: «فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟» قَالَ: تَعَلَّمْتُ فِيكَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ: «كَذَبْتَ، وَلَكِنْ تَعَلَّمْتَ» لِيُقَالَ: هُوَ عَالِمٌ فَقَدْ قِيلَ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: «هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ أَنْوَاعًا فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا» قَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: «مَا تَرَكْتَ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا» قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنْ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: «هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ))


ثم قال المُصنِّف الإمام النسائي  –رحمه الله تعالى - : مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
رائى بقراءة القرآن : أي قرأ القرآن رياءاً وسمعةً وطلباً للشهرة وثناء الناس ومدحهم بحيث يُشيرون إليه القارئ ، الحافظ ، المتقن، فهذا هو غرضه من القراءة ، وغرضه من الاتقان ، والضبط والتجويد ،والترتيل غرضه من ذلك السمعة والشهرة وأن يُمدح وأن يُثنى عليه بأن يُقال فلان قارئ ، فلان حافظ ، فلان متقن ، فلان مُجوِّد ، ونحو ذلك ، فإذا كان هذا غرضه من التلاوة –ولو كان من أحسن الناس إتقاناً في التلاوة وضبطاً للآداء ، والترتيل ، فإن تلاوته وحفظه وضبطه وجلوسه الشهور أوالسنوات في حفظ القرآن واتقانه ، كل ذلك لا يدخل في صالح عمله ولا يقبله الله منه ؛ لأن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي : ))أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك مع فيه غيري تركته وشركه(( فالله -سبحانه وتعالى- لا يقبل من العمل  ومن العمل قراءة القرآن وحفظ القرآن وترتيل القرآن هذا من العمل الصالح الذي يحبه الله سبحانه وتعالى ، فإذا لم يجعل قراءته وحفظه وترتيله لكتاب الله سبحانه وتعالى ، فإذا لم يجعل ذلك ابتغاء وجه الله ، وطلباً لرضاه لا يدخل في صالح عمله حتى لو جلس سنوات يحفظ وجلس من بعد السنوات التي يحفظ سنوات أيضاً يُحفِّظ القرآن ويُعلِّم القرآن ، إذا كان غرضه في هذا كلَّه أن يُقال قارئ ، أو يُقال مُجوِّد ، أو يُقال متقن، هذا لا يدخل في صالح عمله ؛ لأن أعمال العبد لا تدخل في صالح العمل إلا بشرط الإخلاص، كما قال الله – عز وجل : ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾ [البينة:5] ، قال-جل وعلا- : ﴿ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...﴾ [الزمر:3] ، فلا يُقبل عمل إلا إذا أُخلِص لله جلَّ وعلا وابتُغي به مرضاته ، أما إذا أراد به عامله الدنيا أو الشهرة أو السمعة أو مدح الناس أو نحو ذلك ، لا يدخل في صالح عمله ، بل يُقال له يوم القيامة – كما جاء في المُسند وغيره – إذا جوزيَ الناس بأعمالهم وكلٌ أُعطيَ أجره على عمله يقول الله –سبحانه وتعالى – للمرائين :(إذهبوا إلى من كنتم تراءونهم بأعمالكم! هل تجدون عندهم أجرا؟) من كان يرائيهم الإنسان بصلاته أو بقراءته للقرآن أو بعبادته أو بصدقته أو بجهاده أو غير ذلك من الأمور، يُقال له اذهبإليهم ، كل الأشخاص الذين كنت ترائيهم بأعمالك اذهب إليهم ، هل تجد عندهم أجراً؟ والله لن يجد عندهم حسنة واحدة ولا ذرَّة واحدة من الحسنات ، بل ذلك اليوم كلٌ يقول : نفسي نفسي ، مثل ما قال الله -عز وجل- في آخر سورة الإنفطار : ﴿ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الإنفطار:19] أنظر هذه النكرات في هذا السياق –سياق النفي- يوم لا تملك نفسٌ : يعني مهما كانت عظيمة أو رفيقة أو مُشفقة أم كانت أو أب، أيَّاً كان لنفسٍ: مهماً كان هذا عزيزاً عليها وحبيباً عندها وحريصةً عليه
شيئاً : نكرة أيضاً أي: ولو قدر يسير أو قليل جداً ، فالأمر كله لله –سبحانه وتعالى.
فيُقال في ذلك اليوم للمرائين :اذهبوا إلى من كنتم تراؤونهم ، هل تجدون عندهم أجرا؟ أي على أعمالكم التي كنتم تراءونها ، أيَّاً كانت الأعمال : جهاد فعله رياءاً أو كان قراءة قرآن وحفظه فعله رياءاً أو كانت نفقة أو بذل للأموال وفعل ذلك رياءاً كل هذا لا يجد عليه عند الله سبحانه وتعالى شيئاً ؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون خالصاً لوجه الله –عز وجل –
أورد –رحمه الله – حديث أبي هريرة:
قال له قائل : أيها الشيخ حدثنا حديثاً سمعته: أي من رسول الله ﷺ
قال سمعتُ رسول الله ﷺيقول : أول النَّاس يقضي فيه: وذكر ثلاثة عليه الصلاة والسلام

أول الناس يُقضى فيه أي فيما كان من هذا الباب الذي يتعلَّق بهذا الصنيع وهذا العمل، ولهذا لا يُعارض هذا الحديث مثل قول النبي ﷺ( إن أول ما يُقضى فيه يوم القيامة الدماء) ، أي في هذا الباب -باب حقوق العباد- وأيضاً حديث : (أول ما يُسئل عنه العبد من عمله صلاته ) فهذه الأحاديث لا تتعارض ؛ لأن كل حديث جاء في باب معيَّن أو في أمر معيَّن.
قال في أحد الثلاثة  : (رجل استشهد فأتيَ به) : أي قُتِل في المعركة
فعرفهُ نعمة:أنعمت عليك بالصحَّة والعافية و و ..
فعرفها ، قال: فما عملت فيها؟ وهذا فيه أن العبد يُسئل عن النعم يوم القيامة ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر:8] يُسئل عن النعم –نعم الله عليه- الصحَّة والعافية والمسكن والمركب ، وغيرها .. يُسئل عنها.
قال: فما عملت فيها؟ما عملت في صحتك، ما عملت في عافيتك، ما عملت في نشاطك، قوتك.
قال قاتلت فيك:انتبه إلى هذا اللفظ!(فيك) أي مخلصاً أبتغي به وجهك
حتى استشهدت: أي في سبيلك وابتغاء مرضاتك
قال : كذبت !: يقول له الله : كذبت!
ولكنك قاتلت ليُقال فلان جريء ، فقد قيل: فلان مقدام ، فلان شجاع، بعض الناس فعلاً يُقاتل حتى تزهق روحه لكن ليس في سبيل الله وإنما ليُقال جريء أويُقال شجاع ، أو يُقال  مقدام،  يفعل ذلك ، حتى بعضهم –والعياذ بالله- يقتل نفسه- ويُفجِّر نفسه حتى يُقال عنه ما يخاف ولا يُبالي ، وجريء ، ولا يُبالي يُقدم على قتل نفسه ويقتل معه آخرين ويجمع لنفسه بين أعظم جريمتين عصيَ الله بهما بعد الشرك وهما قتل النفس وقتل الغير بغير حق ، لا لشيء إلا ليُقال جريء ، أو يُقال مقدام ، أو يُقال شجاع ، أو نحو ذلك من العبارات ، فيقول الله له: ( كذبت، ولكنك قاتلت ليُقال فلان جريء ، فقد قيل)
ثم أُمر به فسُحِب حتى أُلقي في النار: من فوائد هذا الحديث ، أن من يُقتل في المعركة في ساحة الجهاد في سبيل الله لا ينبغي أن يُقال في حقه (شهيد) مثلما بوَّب البخاري:  باب: لا يُقال له شهيد، لكن إذا قُتِل في المعركة نقول : "نحسبه من الشهداء" ، "نرجو الله أن يكون من الشهداء" ؛ لأن الشهادة ترجع –مع العمل الظاهر إلى شيء بين المجاهد وبين الله وهي نيته وإخلاصه وصدقه ، وهذا لا نطَّلع عليه ولا نراه، نرى الظاهر فنبني عليه حسن الظن به ، نقول : نرجو أن يكون من الشهداء ، نحسبه من الشهداء ، لكن ما نجزم يقيناً ونقول : أنه شهيد ، إذا قلنا أنه شهيد إذن فلنقل أيضاً أنه في الجنَّة ، وهذه تزكية ، والله يقول : ﴿ فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم:32] ، فلا يُجزم له بذلك ، لكن يُقال إذا قُتل في المعركة : نحسبه شهيد ، نرجو الله أن يكون من الشهداء ، أو حتى ندعو له أو ينزله الله منازل الشهداء أما أن نجزم جزماً فهذا دلَّت النصوص على المنع منه ، ولهذا بوَّب البخاري – رحمه الله تعالى- في صحيحه باباً : لا يُقال فلان شهيد ، وأورد من الأدلَّة ما يدل لذلك.
قال – وهذا موضع الشاهد من الترجمة-: ورجلٌ تعلَّم القرآن وعلَّمه وقرأ القرآن: أنظر الآن له مدة طويلة ليست قليلة، تعلَّم القرآن يحتاج إلى وقت وتعليم القرآن أيضاً يحتاج إلى وقت، هذه المدة الطويلةمن هذا الرجل –تعلَّم القرآن وعلَّمه وقرأ القرآن – ما كانت لله، ولم يكن مخلصاً فيها لله عز وجل لا في طلبه ولا في تعليمه
فأتيَ به فعرَّفه نِعمه فعرفها،قال : فما عملت فيها؟ ، قال : تعلَّمت فيك: أي مخلصاً
وعلَّمته وقرأت القرآن فيك:أي مخلصاً ابتغي بذلك وجهك
قال : كذبت ! لأن الله سبحانه وتعالى مطَّلع على ما في الصدور﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:19] سبحانه وتعالى
ولكن تعلَّمت ليُقال هو عالم فقد قيل، وقرأت القرآن ليُقال هو قارئ، فقد قيل:قيل هذا في الدنيا، قيل العالم، الكبير ... إلى آخره، القارئ، المتقن، الضابط، وبموته انتهت هذه الألقاب وما قرأه وما حفظه وما علَّمه ما يدخل معه في قبره في صالح عمله؛ لأنه افتقد الإخلاص، وإذا فُقِد الإخلاص لم يُنتفع بالعمل؛ لأن من شرط قبول العمل أن يبتغي به العامل وجه الله سبحانه وتعالى :﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]
ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار:من هو الذي سُحِبعلى وجهه حتى أُلقيَ في النار؟ هذا رجل كان في الدنيا يجلس مجالس القرآن يُعلِّم القرآن ويحفِّظ القرآن ومن قبل ذلك كان يجلس مجالس طويلة يحفظ القرآن ويتعلَّم القرآن ويوم القيامة يُسحب على وجهه ويُلقى في النار؛ لأنه كان في تعلمه للقرآن وتعليمه للقرآن ما كان يبتغي وجه الله. اللهم يا ربنا ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الموحِّدين، اللهم إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم
قال : (ورجل وسَّع الله عليه): يعني في المال ، يعني أعطاه الله مالاً كثيراً
(وأعطاه من المال أنواعاً): مثل الإبل،بقر ، أموال، أراضي .. إلى غير ذلك.
(فأُتيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها،قال: فما عملت فيها؟): انتبه الآن! هذا السؤال المتكرر يُفيدنا أن العبد يوم القيامة سيُسأل : ما عملت في نعمة الله عليك، هذا سؤال سيرد على العبد يوم القيامة ، ما عملت في نعمة الله عليك؟ أي شيء عملت في نعمة الله – النعمة التي أنعم الله عليك بها ماذا عملت فيها؟ هل استعملتها في طاعة الله؟ أم استعملتها في معصية الله؟ هذا يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فمن الناس من يوفقه الله فلا يستعمل نعمة الله إلا في طاعة الله، ومنهم والعياذ بالله يستعمل نعمة الله في معصية الله.
قال : ( قال: ما تركت من سبيلٍ تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها): مشيراً إلا أنه فعل ذلك لله ، مخلصاً ، يبتغي بذلك وجه الله.
قال :(كذبت ولكن فعلت ليُقال هو جواد ، فقد قيل) : الكلمة التي أردتها قيلت في الدنيا
(ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى يُلقى في النار): فهذه -والعياذ بالله – عاقبة المراءاه بالعمل ، وهذه الأعمال المذكورة الثلاثة : قراءة القرآن وحفظه وتعليمه ، والجهاد في سبيل الله ، الإنفاق وبذل الأموال في سبيل الله هذه من جلائل الأعمال وعظيمها، لكن لمَّا كان هؤلاء الثلاثة عملوا هذه الأعمال ولم يبتغوا بها وجه الله ، وإنما عملوها شهرة ، سمعة ، رياءاً-والعياذ بالله - صاروا من أشر الناس ، يعني هذه الأعمال من أعمال خير الناس ولمَّا فعلها بعض الأشخاص تظاهراً فقط أنه منهم وهو في الواقع ليس منهم صار والعياذ بالله من شر الناس ، كما أن من خير الناس من يعمل هذه الأعمال الطيبة الحسنة فكذلك من شر الناس من يتشبَّه بهم يوهم الناس أنه منهم وهو ليس منهم وهو إنما يفعل ذلك رياءاً والعياذ بالله.

وبمناسبة هذا الحديث الذي نختم به هذا المجلس أنبِّه على أمر حقيقةً أبتُليَ به كثير من الناس في هذا الزمان وخاصةً في هذا الوقت المُتأخِّر مع توافر أجهزة الجوَّال التي فيها كاميرا التصوير الثابت والمتحرِّك ، نرى في كثير من الزوَّار والمعتمرين من أكبر همِّه في عمرته وزيارته التقاط الصور لنفسه ، يلتقط لنفسه صورة وهو في مُصلَّاه وصورة وهو يطوف ببيت الله ، وصورة وهو في السعي بين الصفا والمروة وصورة وهو يرمي الجمار وصورة وهو واقف في عرفة حتى إن بعضهم رؤي –وأنا ممَّن رأى ذلك- في مثل هذه الأماكن عند المطاف أو عند الجمرات يُعطي صاحبه آلة التصوير ثم يُصلح إزاره ويرتِّبه ثم يقول بيديه هكذا يرفعها ثم يصوره صاحبه ثم يخفض يديه هذا رياء – ما فيه كلام- هذا رياء  وهذه الصورة لماذا صورها؟ لأنه سيضعها في ألبوم مثلاً الجامع للصور، أو يضعها مثلاً في مجلسه مكبَّرة ، بحيث كل من دخل يرى هذا الحاج ، الداعي الرافع، يديه يدعو الله ، وهو لمَّا رفعها في الصورة ما رفعها يدعو الله ، لكنه رفعها للصورة ، للرياء.
 وحدثني شخصٌ أثق به قال رأيت في المسجد هذا شخصين يمشيان مع بعض ، فأحدهما أعطى صاحبه آلة التصوير ثم جلس على هيئة التشهُّد وصوَّره ثم قام ومشى ، مصائب والله يا أخوان ، أين يذهب هؤلاء؟ وهذا التعب والسفر والغربة والأموال التي يبذلها ، هل كلها لمجرَّد هذه الصور ويرائي بها الناس ويُبطَّل بذلك عمله والعياذ بالله والله مصيبة ، والله عندما نرى هؤلاء إننا نتألَّم ونشفق عليهم ؛ لأننا والله نود أن عملهم كله يُتقبَّل وأن يجدوا عملهم كله في ميزان حسناتهم ويجدون ثواباً ولكن لمَّا تضيَّع الأعمال بهذه الطريقة ويصبح ليس له هم في الطواف والا في السعي ، و الآن جاء نوع من التصوير يسمونه السيلفي ، تركوا اتباع السلف وراحوا في السيلفي!! يعني يصوِّر نفسه ، فما يحتاج يقول لواحد يصوره وإنما يقف عند الكعبة ويصور نفسه وعند الجمرات ويصور نفسه وفي كل مكان ويصور نفسه ويريها الناس ، مصيبة هذه يا إخوان ، والله مصيبة ، يجب علينا أن نتق الله ، يجب علينا أن نعرف قيمة العبادة، وشعائر الله وتقوى الله والإخلاص، هذه الأمور يجب أن نعرفها ، ثم ماذا إذا التقط هذا الملتقط لهذه الصور لنفسه وأراها الناس ، ثم يأتي يوم القيامة وانتهى، العمل راح! راح في مراءاة ،وقديماً المرائي لمَّا يريد أن يرائي بحجه ، كيف يفعل في الزمان الأول؟ إذا أ راد أن يرائي بحجه ؟ وصل إلى البلد ، يحتاج إلى أن يجلس معهم ، يقول والله أنا كنت عند الجمرات أرفع يديني وأبكي وخاشع لو رأيتني تراني خاشعاً باكياً ، ولو رأيتني عند الكعبة قلبي يتفطَّر ، وعيني تدمع ، هكذا يفعل ، يُسمِّع بعمله ، الآن ما يحتاج أن يتكلَّم أبداً ، يجلس مع الناس يقول لك خذ ، أنظر أعمالي ، وما يحتاج أن يتكلَّم ولا كلمة واحدة ، يعطيه الصور ويريه أعماله كلهانوتخرج أعماله مراءاة وسمعه ، هذه مصيبة عظيمة ؛ ولهذا يجب على الإنسان إذا شرَّفه الله بالإتيان إلى هذه الأماكن أن يترك مثل هذه الأمور وأن يُقبل على الله ، يدعو ويذكر الله ويتلو القرآن ويتقرَّب إلى الله ، الآن بعضهم يفتح المصحف قليل ، وتُلتقط له صورة وهو فاتح المصحف ثم يغلق المصحف ويمشي ، ما في ذكر ولا في عبادة ولا في دعاء  الهمّ كله في الصور هذه تُلتقط ، هذا هو الهم ، فهذه حقيقةً من المصائب والله إنها لمصائب عظيمة ، وإنَّا لمَّا نرى مثل هذا نتألَّم ونشفق عليهم اشفاق عظيم جداً فلنترك هذه الصور ولنقبل على الله مخلصين، داعين ، تالين ، وكل عملنا لا نرجو به شيئاً في هذه الدنيا ، نرجو عند الله يوم نلقى الله سبحانه وتعالى ، حتى نجد يوم نلقى الله في ذلك اليوم العظيم ، يجد اعتماره ، ويجد زيارة مسجد النبي ﷺ، ويجد حجَّه ، ويجد أعماله كلها في صالح عمله، يجد صلاته، النبي ﷺ يقول: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي) ، يقوم الرجل فيُزين صلاته لما يرى من نظر رجل ، فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا أجمعين الإخلاص في الأقوال والأعمال .

اللهم أصلح لنا النية والذريَّة والعمل ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير الموت راحةً لنا من كل شر ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكَّاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنَّا نسألك الهدى والتقى والعفَّة والغنى، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يتحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متِّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
أيضاً مما يلتحق بما ذكرت بمسألة التصوير حتى حلق العلم ، طلاب العلم مجتمعين في الحلقة ويستفيدون ، ثم يمر بعض الأشخاص فيلتقط لنفسه صورة في الحلقة ويمشي ، ما يجلس ويسمع الذكر ، ويسمع الإيمان ، ويسمع القرآن ويسمع ذكر الله عز وجل ، وربما يأخذ الصورة على أنه طالب علم كان يحضر في الحلقات، وإنما هو عابر أخذ صورة ثم يمشي ، نسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين وأن يبصرنا بالحق والهدى وأن يصلح لنا شأننا كله وألَّا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألَّا إلاه إلَّا أنت أستغفرك ونتوب إليك، وصلَّى اللهم وسلِّم على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
 


(التفريغ قام به متطوعون)

الشريط صيغة mp3 
 
مصدر الملف الصوتي : موقع الشيخ

0 التعليقات:

إرسال تعليق