السبيل إلى العزة والتمكين

شرح كتاب فضائل القرآن من السنن الكبرى لإمام النسائي - الدرس الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين أما بعد :
فيقول الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي -رحمه الله تعالى-في كتابه السنن الكبرى
بَابٌ: بِلِسَانِ مَنْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ:
قال :أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حدثنا  إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ قَالَ: قال: ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه  أَنَّ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لِعُثْمَانَ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفْتُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ رضي الله عنها اَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسِخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا وَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ مُصْحَفًا مِمَّا نَسَخُوا))
بسم الله الرحمن الرحيم ،الحمد لله رب العالمينوأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، أما بعد،
 قال الإمام النَّسائي -رحمه الله تعالى -:بَابٌ : بِلِسَانِ مَنْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ:والله عزوجل قال في القرآن قال ﴿بِلِسَانٍ عَرَ‌بِيٍّ مُّبِينٍ﴾[الشعراء: 195] ،فالقرآن نزل بلسان عربي مبين لكن الترجمة هنا بلسان مِن العرب نزل القرآن،والعرب لهجات وقد يختلفون في أحرف كثيرة تختلف من لهجة إلى لهجة وكان أفصح هذه اللهجات : قريش ولذا نزل القرآن بلهجتهم ، وسيأتي فيما ساقه -رحمه الله تعالى- في هذه الترجمة قول عثمان -رضي الله عنه- :((فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ))
وأيضا ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لعبد الله بن مسعود: (( أقرئ الناس بلسان قريش فإن القرآن نزل بلسانهم))، فالقرآن نزل بلسان قريش ولا يتنافى ذلك مع ما سبق ان القرآن نزل على سبعة أحرف؛ لأن الأحرف الأخرى نزل بها القرآن من باب التخفيف والتيسير على العباد وإلا الأصل أن القرآن نزل بلسان قريش؛ ولهذا لما انتهت الحاجة إلى هذا التخفيف بالتئام الشمل واجتماع الكلمة على الإسلام واتحادهم في هذا الدين وائتلافهم فيه جمع عثمان رضي الله عنه -كما تقدم معنا- المصحف على لسان قريش الذي هو اللسان الذي نزل بها القرآن وهو أفصح ألسنة العرب.

أورد هنا عن أنس -رضي الله عنه-أَنَّ حُذَيْفَةَ: أي ابن اليمان رضي الله عنه
قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ: أي كان مشاركا معهم في الغزو.
فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقُرْآنِ: كلهم في الغزو وكلهم سيرهم واحد لكن وجد بينهم اختلاف في القرآن ومرَّ معنا ان هذا الاختلاف وقع بين الصحابة- رضي الله عنهم- قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع هشام بن حكيم مرت معنا قريبا وكذلك قصة أبيّ مع الرجل مرت قريبا ، فالأمر أهال حذيفة لما رآهم في الغزو سيرهم واحد لكنهم مختلفون في القرآن كلٌ يقرأ بحرف يختلف عن الآخر ، فخاف على الناس من ذلك وأن يحصل بينهم اختلاف في كتاب الله عزوجل مما قد يترتب عليه شرٌ عظيم وفسادٌ عريض فخاف على الناس من ذلك ، فجاء إلى عثمان وقد أفزعه اختلافهم في القرآن
فَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ: قبل أن ينشب بينهم خلاف عظيم في كتاب الله عزوجل
كَمَا اخْتَلَفْتُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: أدركهم أي بأن تجمع الناس على مصحف واحد وعلى حرف واحد حتى لايكون بينهم خلاف واختلاف في كتاب الله عزوجل
قال :فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
اَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ:  الصحف التي عند حفصة أصلُها ما أمر به صدِّيق الأمة أبو بكر -رضي الله عنه- زيد بن ثابت أن يجمع القرآن كلَّفه بذلك وزيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه- من كتاب الوحي -وحي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأمره أن يجمع فجمعه -رضي الله عنه وأرضاه- في الصحف فكانت هذه عند أبي بكر -رضي الله عنه- ثم انتقلت بعده إلى عمر -رضي الله عنه- ثم كانت عند حفصة -رضي الله عنها- بنت عُمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عندها هذه الصحف فطلبها عثمان من حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك
ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسِخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ: هؤلاء الأربعة ثلاثة قرشيون وواحد أنصاري هو زيد بن ثابت وهو كاتب الوحي وهو أيضا من كتب تلك الصحف التي كانت عند أبي بكر ثم انتقلت إلى عمر ثم إلى بنته حفصة ، فأمر هؤلاء الأربعة زيد بن ثابت وهو أحد كتاب الوحي، وعبدالله بن الزبير وهو أحد فقهاء الصحابة -رضي الله عنهم- وسعيد بن العاص قيل كان أشبه الناس بلهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام وهؤلاء الثلاثة كما عرفنا قرشيون، فأمر هؤلاء الأربعة ومن بينهم هذا الأنصاري كاتب الوحي حتى يقوم بالكتابة وإذا وقع خلاف رجع إلى لسان قريش الذي يُمثله هؤلاء الثلاثة عبدالله بن الزبير وسعيد وعبدالرحمن بن الحارث أمر عثمان أن يكون زيد معهم مع هؤلاء الثلاثة حتى اذا وقع خلاف رجع إلى لسان قريش كما وجَّه إلى ذلك عثمان

قال (فَإِنِ اخْتَلَفُوا وَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ: ومع زيد بن ثابت ثلاثة من اهل لسان قريش
فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ:وهذا موضع الشاهد للترجمة قول عثمان بن عفان رضي الله عنه فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ: أي بقريش
فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ مُصْحَفًا مِمَّا نَسَخُوا: وجاء انه بعث إلى البصرة وإلى الكوفة وإلى الشام وإلى البحرين وإلى اليمن وإلى مكة وأبقى واحدا في المدينة ، وأمر بإحراق ما سوى ذلك وأن يكون المُعول على هذا المصحف الذي جُمع هذا الجَمع حتى لا يكون هناك اختلاف وهذا من توفيق الله -سبحانه وتعالى- لهذا الصحابي الجليل وقد عُدّ في مآثره العظيمة ومناقبه الجليلة -رضي الله عنه وأرضاه-وجاء أن عليّا رضي الله عنه قال ((لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا)) تأييدا وتأكيدا على حسن هذا العمل الذي قام به عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه -

قال رحمه الله تعالى :بَابٌ:  كَمْ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ آخِرِهِ
قال أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه  قَالَ: ((نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَانَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَكَانَ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا نَزَّلَ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرِينَ سَنَة))
قال أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه  قَالَ: ((نُزِّلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَكَانَ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهُ شَيْئًا أَحْدَثَهُ))
قال:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه  قَالَ: ((فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا)) قَالَ سُفْيَانُ: خَمْسَ آيَاتٍ، وَنَحْوهَا

قال الإمام النسائي -رحمه الله تعالى-:بَابٌ كَمْ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ آخِرِهِ
هذه الترجمة عقدها -رحمه الله تعالى- لبيان أول نزول القرآن متى، وآخر ما نزل من القرآن متى نزل على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام
ومعلوم أن مبدأ نزول الوحي على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام كان على رأس الأربعين من عمره الشريف صلوات الله وسلامه عليه ، وكان أول ما نزل عليه سورة (اقرأ)فهي أول المُنزل على النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ، ثم استمر هذا النزول طيلة سنيّ حياته صلوات الله وسلامه عليه إلى ما قبيل وفاته بيسير ، وكان أن نزل على النبي  عليه الصلاة والسلام عشية عرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَ‌ضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾[المائدة: 3] ، فجاء الإعلان في هذه الآية بتمام الدين وكماله ولهذا لم ينزل بعدها آيات فيها حلال وحرام وأحكام، نعم نزل آيات بعد هذه الآية وكان من آخر ما نزل ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْ‌جَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ﴾[البقرة:281]، لكنه لم ينزل آيات فيها أحكام وحلال وحرام لأن الدين كَمُل بنزول قول الله عزوجل:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَ‌ضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾، وقد عاش بعدها عليه الصلاة والسلام ثمانين يوما لم ينزل فيها حلال ولا حرام.

فالحاصل أن القرآن كان مبدأ نزوله على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام على رأس الأربعين من عمره واختلف في الشهر قيل في ربيع وقيل في رمضان والأشهر والاكثر أنه نزل على النبي عليه الصلاة والسلام أول نزوله في ربيع وهو يتحنَّث صلى الله عليه وسلم في غار حراء وأول ما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه سورة  (اقرأ)



قال: بَابٌ كَمْ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ آخِرِهِ
وأورد رحمه الله تعالى تحت هذه الترجمة عن بن عباس رضي الله عنهما فيما يتعلق بنزول القرآن وأن القرآن نزل في رمضان وهذا دلَّت عليه آيات عديدة في كتاب الله منها قول الله عزوجل ﴿شَهْرُ‌ رَ‌مَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْ‌آنُ﴾[البقرة: 185]
وقول الله عزوجل:﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَ‌كَةٍ ﴾[الدخان: 3]
وقوله عزوجل:﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌﴾ [ القدر: 1 ]
هذه الآيات الثلاث كلها تدل على أن نزول القرآن كان في شهر رمضان وأنه تحديدا في ليلة واحدة من ليالي هذا الشهر العظيم المبارك وهي ليلة القدر والله -سبحانه وتعالى- فخّم شأن هذه الليلة وعظم أمرها ﴿وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ خَيْرٌ‌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‌ ﴿٣﴾ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ‌بِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ ﴿٤﴾ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ‌ ﴿٥﴾﴾[القدر] ، ليلة هي خير الليالي وأشرفها وأجلُّها على الإطلاق وفيها أنزل الله سبحانهوتعالى القرآن الكريم.

بل جاء في المسند وحسَّن بعض أهل العلم الحديث حديث واثلة بن الأصقع -رضي الله عنه- ما يدل على أن الكتب المنزلة على الأنبياء قبل كانت تنزل في رمضان فجاء من حديث واثلة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( نزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام لثلاث خلون من رمضان ونزلت التوراة على موسى لست خلون من رمضان ونزلت الإنجيل على عيسى لثلاث عشر خلون من رمضان ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان) فهذا يفيد أن نزول الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كانت تنزل في رمضان ، وهذا كله من الدلائل على شرف هذا الشهر العظيم واختصاصه بخصائص عظيمة تميز بها عن غيره من الشهور.

وإذا تأمل المتأمل في نزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام خلال مطالعة السنَّة والسيرة يجد أن القرآن نزل مفرقا ،نزل في شوال وفي شعبان وفي ذي الحجة
في ذي الحجة نزل عليه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾فالقرآن نزل مفرقا لم ينزل كلَّه على النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة القدر وإنما نزل مفرَّقا ؛ولهذا جاء في بعض الطرق لهذا الخبر عن بن عباس -رضي الله عنهما- أن قائلا قال له : ((وقع في نفسي شيء))، يعني في القرآن ثلاث آيات كلها تدل على أن القرآن نزل في رمضان وأنه نزل في ليلة القدر، لكن لمَّا ينظر الإنسان إلى واقع السيرة والمأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نزل مفرقا فكان يسأل بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال:إن القرآن نزل في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزل بحسب الوقائع والأحداث وبما تقتضيه الأحوال
قال :عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه  قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ: نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ اي إلى السماء الدنيا وكما أيضا في الرواية الأخرى في بيت العزة في السماء الدنيا ففصل من اللوح المحفوظ أُعطيَ لجبريل أخذه من اللوح المحفوظ ونزل به إلى السماء الدنيا، نزل به مكتوبا أخذه من اللوح المحفوظ بهذا النزول المشار إليه أخذه مكتوبا وجعله مكتوبا في بيت العزة .
وذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- أن الحكمة في ذلك: تعظيم القرآن وتشريفه وتشريف هذه الأمة والليلة أيضا التي أنزل فيها والشهر الذي أنزل فيه والنبي الكريم الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، فأخذه جبريل عليه السلام من اللوح المحفوظ وهو في اللوح المحفوظ مكتوبا أي أن الله سبحانه وتعالى كتبه في اللوح المحفوظ ولما أذن الله عزوجل لجبريل أخذه من اللوح المحفوظ ونزل به إلى بيت العزة وكان هذا النزول في شهر رمضان في ليلة القدر نزل به كاملا
والقرآن الكريم دل على كُتب في اللوح المحفوظ ، ﴿بلْ هُوَ قُرْ‌آنٌ مَّجِيدٌ ﴿٢١﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴿٢٢﴾﴾[البروج]، ﴿إِنَّهُ لَقُرْ‌آنٌكَرِ‌يمٌ﴿٧٧﴾فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴿٧٨﴾لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُ‌ونَ﴿٧٩﴾﴾ [الواقعة]، فهذا كله يدل على أن القرآن كُتب في اللوح المحفوظ كاملا وأخذه جبريل في ليلة القدر بأمر الله -سبحانه وتعالى -ونزل به إلى بيت العزة في السماء الدنيا ،ثم من بعد ذلك كان إذا أراد الله أن يُحدث شيئا نزل ، فكان بين أوله وآخره عشرين سنة وهذا مع حذف الكسر كما تقدم فكان ينزل بحسب الوقائع.
النزول الأول نزل به جبريل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة أخذه مكتوبا من اللوح المحفوظ ونزل به مكتوبا إلى بيت العزة هذا النزول الأول.
أما النزول الثاني فهو بحسب الوقائع وكان جبريل يسمعه من الله سبحانه وتعالى كان جبريل يسمعه من الله سبحانه وتعالى وينزل به إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وكان هذا النزول مفرَّقا بحسب الوقائع والأحداث والأحوال والأمور واختلاف الأوقات على امتداد هذه السنوات ثلاث وعشرين سنة كان ينزل فيها جبريل على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يسمع من الله وينزل به على محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ينزل على محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ولهذا قال الله تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّ‌وحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِ‌ينَ﴿١٩٤﴾﴾[الشعراء]
ولهذا ليس هناك تنافي بين سماع جبريل القرآن من الله ونزوله به على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وبين ما دلَّ عليه هذا الخبر أن جبريل نزل بالقرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ -أخذه من اللوح المحفوظ -ونزل به إلى بيت العزة، أخذه مكتوبا من اللوح ونزل به مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر التي هي أشرف الليالي وجاء في بعض الروايات ( دُفع القرآن إلى جبريل من اللوح المحفوظ )
وهنا في هذه الرواية (فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ) والمراد بالذكر أي اللوح المحفوظ المراد بالذكر هنا أي اللوح المحفوظ فوضعه في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام يرتله ترتيلا ويكون أخذ النبي للقرآن سماعا من جبريل وجبريل أخذه سماعا من رب العزة ؛ ولهذا ، الإسناد لمن وفقه الله عزوجل بقراءة وحفظ كتاب الله عزوجل يكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام عن إلى النبي عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن رب العالمين، هكذا يكون الإسناد عن النبي عليه الصلاة والسلامعن جبريل عن رب العالمين وأما ما يأتي في بعض الإجازات -حتى في وقتنا- هذا يُنهون الإسناد إلى اللوح المحفوظ يقولون عن ينتهي الاسناد إلى النبي عليه الصلاة والسلام عن إلى النبي عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن اللوح المحفوظ، فهذا مبني على تأثر بعقيدة الجهمية والمعتزلة وهي القول بخلق القرآن وهذا كلام باطل ودخل على بعض القرَّاء تأثرا بتلك العقيدة الباطلة ، ينهون الإسناد إلى اللوح المحفوظ فرارا من إثبات تكلُّم الله سبحانه وتعالى بالقرآن وسماع جبريل للقرآن من الله سبحانه وتعالى فأثرت فيهم تلك العقيدة الفاسدة الباطلة فأنهوا الإسناد إلى اللوح المحفوظ ولايزال بعض من يجيز القرآن الكريم يُنهي الإسناد إلى اللوح المحفوظ وهذا من التأثر بتلك العقيدة الباطلة لأن كما عرفنا من هذا الأثر أن القرآن له نزولان:نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة مكتوبا أخذه ونزل به مكتوبا والنزول الآخر سماعا يسمعه جبريل من الله سبحانه وتعالى وينزل به إلى محمد صلوات الله وسلامه عليه فيكون الإسناد عن النبي عليه الصلاة والسلامعن جبريل عن رب العزة سبحانه وتعالى.
جاء في البداية والنهاية للحافظ بن كثير رحمه الله تعالى وهو يذكر شيء مما يتعلق بمناقب الشافعي وأخباره قال :(( قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين عن شبل عن بن كثير عن مجاهد عن بن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عزوجل))
وهكذا الأمر ينبغي أن يكون وفق العقيدة الصحيحة في كتاب الله سبحانه وتعالى وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد سمعه من جبريل وأن جبريل سمعه من الله سبحانه وتعالى ونزل به على نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه
﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّ‌وحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِ‌ينَ﴿١٩٤﴾بِلِسَانٍ عَرَ‌بِيٍّ مُّبِينٍ﴿١٩٥)﴾
سؤال :القول بأنه مكتوب في اللوح المحفوظ لا يتنافي مع أن الله تكلَّم به، أحسن الله إليكم فيه إشكال!
الشيخ عبد الرزَّاق البدر –بارك الله فيه وفي علمه وفي عمره- : نعم أشرت إلى هذا قلت أن كون جبريل عليه السلام نزل  بالقرآن إلى بيت العزة مكتوبا أخذه من اللوح المحفوظ مكتوبا ونزل إلى بيت العزة مكتوبا لا يتنافى مع أنه سمعه من الله ونزل به؛ ولهذا يفيد هذا الأثر أن النزول للقرآن نزولان:نزول أول مكتوبا أخذه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به مكتوبا إلى بيت العزة وأما النزول الثاني فكان نزولا أخذه بالسماعأخذه جبريل عليه السلام بالسماع من الله تبارك وتعالى يسمعه من الله وينزل به على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بحسب الوقائع، يعني مثلا لما جاءت المرأة المجادلة إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بل وهي في وقت وجودها عند النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة معها في الحجرة تقول: (( أسمع بعض كلامها ويغيب عني بعضه))نزلت في تلك الأثناء على النبي عليه الصلاة والسلام قول الله ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَ‌كُمَا ﴾[المجادلة: 1]، نزلت في وقت وجود المرأة ، فأخذها عن جبريل هذه الآيات من الله سمعها من الله ونزل بها إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فلا تنافي بين الأمرين ،لاتنافي بين كون القرآن نزل أولا جملة واحدة إلى بيت العزة أخذه جبريل مكتوبا من اللوح المحفوظ ونزل به مكتوبا إلى بيت العزة ثم النزول الآخر مفرقا بحسب الوقائع والأحوال على امتداد ثلاث وعشرين سنة كان جبريل يسمعه من الله وينزل به إلى محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه

الجملة الأخيرة قَالَ سُفْيَانُ: «خَمْسَ آيَاتٍ، وَنَحْوهَا: يعنيالنزول المفرق للقرآن كان ينزل بحسب الحاجة يعني تنزل خمس آيات أربع آيات ونحو ذلك بحسب الحاجة ينزل إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ﴿كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَ‌تَّلْنَاهُتَرْ‌تِيلًا﴾[الفرقان: 32]

سؤال: بيت العزة الذي في السماء يسألون عنه
الشيخ عبد الرزَّاق البدر –بارك الله فيه وفي علمه وفي عمره- :بيت العزة في السماء الدنيا وهو بيت شرَّف الله سبحانه وتعالى قدره وأعلى مكانه وهو في السماء الدنيا ، ومما شُرِّف به هذا البيت أن القرآن أُنزل فيه أُنزل إليه القرآن وأودِع فيه في ليلة القدر وضعه جبريل في بيت العزة كما في هذا الخبر .

قال -رحمه الله تعالى-:بَابٌ: عَرْضُ جِبْرِيلَ الْقُرْآنَ
قال  أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَكَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ))
نكتفي بهذا القدر ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفعنا أجمعين بما علمنا وأن يزيدنا علما وأن يُصلح لنا شأننا كله وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ،اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفَّة والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا
اللهم متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه



(التفريغ قام به متطوعون)

الشريط صيغة mp3
  
مصدر الملف الصوتي : موقع الشيخ

0 التعليقات:

إرسال تعليق