السبيل إلى العزة والتمكين

شرح كتاب فضائل القرآن من السنن الكبرى لإمام النسائي - الدرس الثامن



        بسم الله الرحمن الرحيم

شرح كتاب

فضائل القرآن
من كتاب السنن الكبرى للإمام النسائي
(رحمه الله)

للشيخ عبد الرزَّاق البدر
(بارك الله فيه وفي علمه)

الدرس الثامن
سُورَةُ الْبَقَرَةِ


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله و رسوله نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين. أما بعد،
يقول الإمام أبو عبد الرحمن  النّسائي رحمه الله تعالى في كتابه السنن الكبرى: سورة البقرة
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين و أشهد أن لا إله إلا الله  وحده لا شريك له  وحده لا شريك له و أشهد أن محمد عبد الله و رسوله صلى الله و سلم عليه و على آله و أصحابه أجمعين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا اللهم علّمنا ما ينفعنا و زدنا علما و أصلح لنا شأننا كله و لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ما بعد،
قال المصنِّف الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- :
سورة البقرة :هذه ترجمة عَقَدَها -رحمه الله تعالى- لبيان شيء من فضائل سورة البقرة عموما ، وفضائل بعض الآيات في هذه السورة آية الكرسي ، والآيتان التي ختمت بهما هذه السورة العظيمة.
و سورة البقرة سورةٌ عظيمة مُباركة، هي أطول سور القرآن ، وأكثر سور القرآن اشتمالا على الأحكام و الأوامر والنواهي وأيضا اشتمالا على عظمة الرب و كماله وذكر أسمائه وصفاته و آلائه و قدرته سبحانه و تعالى ، فإن هذه السورة العظيمة المُباركة اشتملت على هذه المضامين ما لم تشتمله سورة أخرى من سور القرآن ، حتى قال بعض أهل العلم عن هذه السورة (فيها ألف أمر و ألف نهي و ألف حُكم و ألف خبر) ولا يعني ذلك تحديدا بهذا الرقم وإنما إشارة إلى الكثرة ، كثرة الأوامر في هذه السورة وكثرة النواهي وكثرة الأحكام والأخبار وأنّ ما اشتملت عليه هذه السورة من ذلك لم تشتمل عليه سورة أخرى من سُور القرآن.

ومن فضائل هذه السورة أن فيها آية الكرسي أعظم آية في القرآن وفيها أيضا الآيتان اللتان خُتمت بهما السورة وهما من كنزٍ تحت العرش كما سيأتي بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وكما سيأتي أيضا شيء من فضائل هاتين الآيتين اللتين خُتمت بهما سورة البقرة.
 الحاصل أن سورة البقرة سورة عظيمة جداًمليئة بالفقه والأحكام والأوامر والنواهي والعبر و الدروس ، حتى أن الصحابيّ الجليل ابن عمر -رضي الله عنهما- قضى في حفظ هذه السورة سبع سنين -رضي الله عنه و أرضاه- على طريقة السلف، في الجمع بين العلم و العمل والفهم و عندما يُقال عن الواحد من السلف أنه جمع القرآن لا يعني ذلك الطريقة السائدة أن تُحفظ حروف القرآن حفظا مجردا دون فقه أو فهم ولهذا قضى ابن عمر في جمع هذه السورة وحفظها سبع سنين وهي سورة مشتملة على فقه عظيم وحِكَم كثيرة وأحكام عديدة و أوامر ونواهي و هذا كله مما يدل على عظم شأن هذه السورة ورفعة مكانتها.
 ومما ورد في فضلها هذا الحديث الذي ساقه الإمام النّسائي رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ))
(لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ): أي لا تشبهوها بالمقابر و لا تجعلوها مثل المقابر والمقابر كما هو معلوم لا يُشرع فيها قراءة القرآن ولا أيضا يُشرع أن تُتخذ مكانا للصلاة و العبادة و من لم يعتن في بيته بقراءة القرآن و إقامة ذكر وأداء صلاة النافلة يُصبح بيتُه شبيها بالمقابر ؛ولهذا قال عليه الصلاة و السلام : ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ)) أي لا تتركوا قراءة القرآن في بُيوتكم ولا تتركوا ذكر الله في بيوتكم و لا تتركوا العناية بالصلاة النافلة في بيوتكم فإنكم إن فعلتم ذلك فقد جعلتم بُيوتكم مثل المقابر هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا))
و العلماء رحمهم الله تعالى أخذوا من هذا الحديث تحريم قراءة القرآن في المقابر و إلا لم يكن للتشبيه أيُّ معنى في قوله : ((لا تتخذوا بيوتكم قُبورا)) أي لا يُقرأ فيها القرآن لأن المقابر لا يُشرع بل يحرُم ذلك و البيت الذي لا يُذكر فيه الله -ومن أعظم ذكر الله قراءة القرآن- مثله مثل الميّت، قد جاء في الصحيح أنّ النبي صلَّى الله عليه و سلم قال : ((مثل الذي يذكر ربه و الذي لا يذكر مثل الحيّ و الميت)) و في رواية للحديث : ((مثل البيت الذي يُذكر فيه الله و البيت الذي لا يُذكر فيه الله كمثل الحيّ و الميت)) و من مجموع هذين اللفظين للحديث يُعلَم أن الرجل الذي يبقى في بيته لا يذكر الله -سبحانه و تعالى- حاله شبيهة تماما بحال الأموات الذي هم في داخل القبور ويُصبح بيتُه مثل المقبرة كأنه مدفون في بيته، بيته مقبرة له لا يذكر الله سبحانه وتعالى ، هذا مثل البيت الذي لا يذكر فيه الله سبحانه و تعالى و من أعظم الذكر لله عز و جل في البيت  أن يُقرأ القرآن في البيت وأن يُعتنى بقراءة القرآن في البيت و هذا فيه فوائد عظيمة للبيوت المُسلمة عندما يُقرأ فيها القرآن من أعظمها أن تنطرد الشياطين عن البيوت و يُسلَم من شرورها ووساوسها.
و لهذا قال عليه الصلاة و السَّلام في هذا الحديث : ((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ)): ينفر أي يصُدّ ويبتعد عن البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لأن قراءة سورة البقرة من أعظم الذكر لله -عز و جل- ومن أعظم الأمور الطاردة للشياطين و إذا تُرِكت مثل هذه القراءة أقبلت الشياطين على البيوت و وجدت لها في البيوت مرتعاًوالله يقول : ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾[الزخرف:36] أي ملازم.
 و قد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال : ((اقرؤوا البقرة فإنها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعُها البَطلة)): والبطلة السحرة كما قال أهل العلم و هذا من فضائل هذه السورة العظيمة و أنه ينبغي أن يُعتنى بقراءتها في البيوت و أن يُحرَص على ذلك.
و قول النبي عليه الصَّلاة و السلام في هذا الحديث : ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ)):  فيه كما قدمت أن يُحرص على إقامة ذكر الله في البيوت بأن تُعمر البيوت بذكر الله -عز و جل- وهذه الطريقة هي الطريقة التي أرادها الله -عز و جل-لأمة الإسلام أمة الخير والبركة خِلاف ما عليه النّصارى ومن تشبّه بهم من هذه الأمَّة ، يهجرون ذكر الله في البيوت و يشتغلون بالأذكار المُحدثة في المقابر، فيعتنون بإقامة الأذكار في المقابر و تكون البيوت مُعطلة من الذكر و الإقامة لذكر الله سبحانه و تعالى .
الحاصل أن البيوت المسلمة ينبغي أن تكون بيوت ذكر لله -عز و جل- و أن يُعتنى فيها بذكر الله -سبحانه و تعالى.
سؤال: الشيطان ينفر من البيت، هل هناك مدة معينة؟
الشيخ– بارك الله فيه-:جاء في بعض الأحاديث -وليس عندي علم بمدى صحة ذلك- أن هذه القراءة تنفع لمدة ثلاثة أيام لكن لا أعلم مدى صحة الحديث الذي ورد في ذلك، لكن الذي ينبغي هو العناية بهذه القراءة ولا سيما لهذه السورة في البيوت ما تيسر للمرء من ذلك و لو كان في الشهر مرة مثل ما حدّ النبي عليه الصلاة السلام أوّل ما حد لعبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((اقرأ القرآن مرة في الشهر)) الحاصل أنه يقرأ هذه السورة في بيته ما تيسر له.
قال : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ-رضي الله عنه-عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ -رضي الله عنه-وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ قَالَ: «قَرَأْتُ اللَّيْلَةَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفَرَسٌ لِي مَرْبُوطٌ، وَيَحْيَى ابْنِي مُضْطَجِعٌ قَرِيبًا مِنِّي، وَهُوَ غُلَامٌ، فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَقُمْتُ لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا يَحْيَى ابْنِي، فَسَكَنَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأْتُ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَقُمْتُ لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا ابْنِي، ثُمَّ قَرَأْتُ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْظُّلَّةِ فِي مِثْلِ الْمَصَابِيحِ مُقْبِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَالَنِي، فَسَكَنَتْ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ» فَقَالَ: «اقْرَأْ يَا أَبَا يَحْيَى» قُلْتُ: قَدْ قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، وَلَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا ابْنِي فَقَالَ: «اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ» قَالَ: «قَدْ قَرَأْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا كَهَيْئَةِ الْظُّلَّةِ فِيهَا مَصَابِيحُ فَهَالَنِي» فَقَالَ: «ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، دَنَوْا لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ حَتَّى تُصْبِحَ لَأَصْبَحَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ))
ثم أورد المصنِّف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن أسيد بن حُضير قال : ((وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن)) والقائل هو أبو سعيد– الراوي- قال و كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن و قد جاء في مستخرج أبي عَوانة و غيره أن النبي صلَّى الله عليه و سلم قال:((اقرأ يا أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود)) فكان رضي الله عنه و أرضاه أوتي حُسن صوت بالقرآن -رضي الله عنه و أرضاه-
 و هذا الحديث ساقه الإمام النّسائي -رحمه الله تعالى- لما فيه من فضيلة أخرى لهذه السورة وأن من فضائلها أنها سبب لدُنوّ الملائكة- ملائكة الخير والرحمة- مثل ما قال النبي عليه الصّلاة و السلام عموما في الحديث الآخر : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله و في رواية بدون ذكر (بيت) : ((ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله في من عنده "
 فالإمام النّسائي رحمه الله أورد هذا الحديث لأن فيه هذه الفضيلة و هي مُقابلة لما في الحديث الذي قبله، الحديث الذي قبله على أن من فضل سورة البقرة أنها تطرد الشياطين ، و هذا الحديث فيه أن سورة البقرة تُقرب الملائكة فهاتان فضيلتان، الحديث الأول فيه أن سورة البقرة طاردة للشياطين و مُبعدة لها عن العبد المؤمن التالي لهذه السورة المُعتني بها
و هذا الحديث -حديث أبي سعيد عن أُسيد رضي الله عنهما- فيه فضيلة أخرى لهذه السورة وهي أنها تُدني الملائكة و تُقرب الملائكة من العبد ولا سيَما إذا حبّر التالي القراءة وحسّن صوته بالتلاوة تقربًا إلى الله وابتغاء لمرضاته-جل في علاه- تأتي مثل هذه الخيرات وهذه البركات العظيمة .
قال : ((عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ قَالَ: «قَرَأْتُ اللَّيْلَةَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفَرَسٌ لِي مَرْبُوطٌ، وَيَحْيَى ابْنِي مُضْطَجِعٌ قَرِيبًا مِنِّي، وَهُوَ غُلَامٌ، فَجَالَتْ جَوْلَةً)): أي فرسُه تحرَّكت من مكانها اضطربت.
((فَقُمْتُ لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا يَحْيَى ابْنِي)):  خاف أن تطئه الفرس لما اضطربت و تحركت خشي على ابنه المُضطجع قريبا منه أن تطأه الفرس
((فَسَكَنَتِ الْفَرَسُ)): لأنه لما اشتغل بأمر ابنه توقف عن التلاوة
((ثُمَّ قَرَأْتُ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَقُمْتُ لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا ابْنِي، ثُمَّ قَرَأْتُ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْظُّلَّةِ فِي مِثْلِ الْمَصَابِيحِ)): كانت هذه الظلة تدنو و تقترب مع التلاوة إلى موضع والمكان الذي فيه أسيد والفرس رأت هذه الظلة فهابت وتحركت و اضطربت ، فكان إذا توقف عن القراءة سكنت الفرس- لأنه يظهر والله أعلم - أن هذه الظلة تتوقف في الدُّنُو والاقتراب فإذا بدأ يكمل قراءته بدأت تدنوا و تقترب.
يقول: (( فَإِذَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْظُّلَّةِ فِي مِثْلِ الْمَصَابِيحِ مُقْبِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَالَنِي ))هاله مثل ما هال الفرس قبله لما رأت تلك الظلة مُقبلة
((فَسَكَنَتْ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ» فَقَالَ: «اقْرَأْ يَا أَبَا يَحْيَى)): هنا قوله (اقرأ) ليس أمرا لأبي يحيى أسيد -رضي الله عن-ه أن يقرأ حال وُقوفه أمام النبي عليه الصلاة و السلام ، هو لا يطلب أن يقرأ في تلك الحال و هو واقف أمام النبي عليه الصلاة و السلام ، و إنما مراده (اقرأ): أي هلّا زدت في القراءة، هلّا استمريت في القراءة عندما دنت هذه الظلة فهذا معنى قوله: (اقرأ يا أبا يحيى) والدليل على أن هذا هو المراد قوله: ((قُلْتُ: قَدْ قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ)) فَهم أسيد أن النبي صلَّى الله عليه و السلام عنى بذلك : اقرأ يا أبا يحيى، أي هلا زدت في القراءة و الظلة تدنوا منك قال:قد قرأت لأنه قرأ مرَّة و اثنتين و ثلاث .

قال: ((قَدْ قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، وَلَيْسَ لِي هَمٌّ إِلَّا ابْنِي)) يعني ما كنت توقفت إلا خوفا على ابني يحيى
فَقَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)) مع ذلك أيضا كان يقول له النبي عليه الصلاة و السلام أي هلا زدت في قراءتك
قَالَ: ((قَدْ قَرَأْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا كَهَيْئَةِ الْظُّلَّةِ فِيهَا مَصَابِيحُ فَهَالَنِي» فَقَالَ: «ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، دَنَوْا لِصَوْتِكَ))انظر ما في قوله لصوتك ما في التحبير للقراءة و التزيين للقراءة و الحُسن في أداء التلاوة من أثر ، قال : ((ذلك الملائكة))يعني ذلك أو تلك الظلة التي رَأيت الملائكة كانت تدنوا و جاء في بعض الأحاديث قال : ((تلك السكينة))، فالذي نزل و دنا سكينة و ملائكة مثل ما في الحديث الذي أشرت إليه : ((إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة)) لكن مجالس الذكر التي يُذكر فيها الحلال تنزل الملائكة و تدنوا و لا يراها الناس لا يراها أهل الحلق و طلاب العلم ما يرونها لكنهم على يقين من قول النبي عليه الصلاة و السلام و أنه عليه الصلاة و السلام صادق مصدوق لا ينطق عن الهوى، و لهذا طالب العلم و إن كان لا يرى الملائكة إلا أنه على يقين من ذلك -على يقين من أنها تدنو وأنها تحف مجالس العلم بأجنحتها وأنها تضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع- كل هذا يؤمن به وأنه حق و إن لم ير ذلك و لكن الكرامة التي حصلت لأسيد -رضي الله عنه و أرضاه- أنه عاين دُنو السكينة و عاين دُنو الملائكة ،شاهد ذلك لما رفع رأسه رأى كهيئة الظلة فيها مصابيح فقال النبي عليه الصَّلاة و السلام : ((ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، دَنَوْا لِصَوْتِكَ ))و هذا من الكرامات و أهل السنَّة يؤمنون بكرامات الأولياء و لا يؤمنون بخزعبلات أهل الضلال والباطل و أهل الدجل الذين يتأكلون بما يُسمونه الكرامات التي يزعمونها ويدّعونها ويأكلون بها أموال الناس بالباطل.
 كرامات الأولياء حق و كثيرة جدا حتى قال ابن تيمية -رحمه الله- و هو يُعدد شيئا من كرامات الأولياء قال: (و عدّها مثل المطر كثيرة جدا)  كرامات الأولياء  وهي حق و أهل السنَّة يؤمنون بها وهذه من الكرامات التي حصلت لهذا الصحابي الجليل مما أكرمه الله- سبحانه و تعالى- به و يستفاد من هذا الحديث أن كرامة الولي هي ثمرة طاعته لله ، و لهذا قال أهل العلم : ((أعظم كرامة لزوم الاستقامة))فالكرامات التي تحصل للأولياء -وهي الأمور الخارقة للعادة - هي من ثمرة الاستقامة ولزوم الطاعة لله- سبحانه وتعالى-
 قال :((ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، دَنَوْا لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ)) يعني استمريت في القراءة وهذا يوضحلنا أن قوله :((اقرأ يا أسيد))أو ((اقرأ يا ابن حُضير))المراد هلّا زدت في القراءة .
قال في تمام الحديث : (( وَلَوْ قَرَأْتَ حَتَّى تُصْبِحَ لَأَصْبَحَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ)) : يعني لاستمرُّوا في النزول و الدنو ويصبح الناس وهم ينظرون إليهم.

قال -رحمه الله تعالى- : آيَةُ الْكُرْسِيِّ
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ عَلَى تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَوَجَدَ أَثَرَ كَفٍّ كَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» قُلْ: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: «فَإِذَا جِنِّيٌّ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذْتُهُ لِأَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «إِنَّمَا أَخَذْتُهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَلَنْ أَعُودَ» قَالَ: «فَعَادَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: «فَإِذَا أَنَا بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاهَدَنِي أَنْ لَا يَعُودَ فَتَرَكْتُهُ، ثُمَّ عَادَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: «قُلْ سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقُلْتُ: فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ: «عَاهَدْتَنِي فَكَذَبْتَ وَعُدْتَ، لَأَذْهَبَنَّ بِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((خَلِّ عَنِّي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ لَمْ يَقْربْكَ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى مِنَ الْجِنِّ» قُلْتُ: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ لِي: «أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ كَذَلِكَ))
ثم قال المصنِّف -رحمه الله تعالى- : آية الكرسي : أي ما ورد في فضل هذه الآية، و أورد تحت هذه الترجمة حديث أبي هريرة يرويه عنه أبو المتوكل النّاجي في هذا السياق الذي أورده الإمام النسائي -رحمه الله تعالى -و هو سياقٌانفرد به النسائي -رحمه الله تعالى- عن الكتب الستةو الحديث مُخرّج في الصحيحين ، في صحيح البخاري من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة و هو أصح -كما سيأتي بيان ذلك-
وهذا الحديث الذي ساقه -رحمه الله تعالى-عن أبي المتوكل الناجي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى تَمْرِ الصَّدَقَةِأي قائما على حفظ تمر الصدقة ، كلّفه النبي صلى الله عليه و سلم بذلكفَوَجَدَ أَثَرَ كَفٍّ كَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» قُلْ: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ))صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في هذه الرواية رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة فيها أن أبا هريرة شكا للنبي صلى الله عليه و سلم أوّلا، بينما في رواية محمد بن سيرين في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن شكاية أبي هريرة -رضي الله عنه- إنما هي بعد أخذه ، وسؤال النبي صلى الله علي و سلم قال له: ((ماذا صنع أسيرك البارحة)) ،هنا في هذا الحديث أن أبا هريرة شكا ابتداءا إلى النبي صلَّى الله عليه و سلم ، وهذا مما خالفت فيه هذه الرواية -رواية محمد بن سيرين-
  قوله في هذه الرواية  ((قُلْ: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)): أيضا هذه اللفظة مما خالفت فيه هذه الرواية رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة
قال أبو هريرة:فقلت:أي ما قال النبي عليه الصلاة و السلام
((فَإِذَا جِنِّيٌّ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذْتُهُ لِأَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «إِنَّمَا أَخَذْتُهُ  أي هذا التمر ((لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَلَنْ أَعُودَ» قَالَ: «فَعَادَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: «فَإِذَا أَنَا بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاهَدَنِي أَنْ لَا يَعُودَ فَتَرَكْتُهُ، ثُمَّ عَادَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: «قُلْ سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقُلْتُ: فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ: «عَاهَدْتَنِي فَكَذَبْتَ وَعُدْتَ، لَأَذْهَبَنَّ بِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «خَلِّ عَنِّي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ لَمْ يَقْربْكَ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى مِنَ الْجِنِّ» قُلْتُ: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ)) : وأيضا هذا مما خالفت به هذه الرواية رواية محمد بن سيرين في صحيح البخاري في رواية محمد بن سيرين في صحيح البخاري قال له  : ((إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكُرسي من أولها إلى خاتمتها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ  و لا يقربك شيطان حتى تصبح )) فهي في فضل قراءة آية الكرسي عند النوم و إنما جاءت في هذا الحديث في رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة أنها مما يقرأ في الصباح و المساء و هذا المعنى ثبت لكن من حديث أُبَيّ في قصة أخرى مشابهة لهذه القصة قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ لِي: «أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ كَذَلِكَ "  قوله : ((أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ كَذَلِكَ)) مثل قوله في رواية محمد بن سيرين : ((صدقك وهو كذوب)) أي أن هذا حق قراءة هذه الآية و ما فيها من فضل.
 الحاصل أن هذا الحديث اختلف فيه على أبي المتوكل لأنه رواه عن إسماعيل بن مسلم و في مصادر التخريج رواه عن إسماعيل هذا ثلاثة : شعيب بن حرب-كما هنا- و رواه أيضا محمد بن منصور القيسي ،وكذلك مسلم بن إبراهيم ، ومسلم بن إبراهيم و عمرو القيسي رووه عنه مرسلا و في هذه الرواية عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل موصولا،  قال: عن أبي هريرة ، و رواية مسلم و عمر جاءت مرسلا ، وهذا اختلاف عليه في الرواية و هذا أيضا  مما يشير إلى أن فيها شيء من الضعف كذلك في الروايات -روايات هذا الحديث-رواية مسلم و عمرو جاء في فضل قراءة الآية مطلقا ،يعني لم يأتي تقييدها بالصباح و المساء وفي هذه الرواية قيدت  في الصباح و المساء و هذا أيضا من الاختلاف عليه في الاسناد و في المتن و هذا كله مما يشير إلى أن في هذه الرواية ضعف و على كلٍّ هي مخالفة لما رواه البخاري من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، و محمد بن سيرين روايته أضبط و أتقن و قد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى محمد بن سيرين عن أبي هريرة لا يُقدّم عليه أحد .
فالأصح في هذا الباب ما خرّجه البخاري عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة في القصة المشهورة المعروفة ، وفيها أن هذه الآية تُقرأ عند النوم و أن من قرأها عند النوم فإنه لن يزال عليه من الله حافظ و لا يقرَبُهُ شيطان حتى يصبح، و أبو هريرة كما في تلك الرواية لمَّا قال له الشيطان ذلك سأل النبي عليه الصَّلاة و السلام عن هذا الأمر فقال : ((صدقك و هو كذوب)) فعُلم بقول النبي عليه الصلاة و السلام " صدقك" مشروعية قراءة هذه الآية كل ليلة إذا أوى المرء إلى فراشه و أنه لا يزال عليه من الله حافظ و لا يقربُه شيطان حتى يصبح.



قال رحمه الله تعالى :الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
قال :أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ))
قال :أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَفَتَاهُ))
قال :أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، أَخْبَرَهُ عَلْقَمَةُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: فَلَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ فِي الطَّوَافِ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِهِ
ثم قال المصنِّف الإمام النّسائي -رحمه الله تعالى- : الآيتان من آخر من سورة البقرة أي فضل الآيتين من آخر سورة البقرة بدءا من قوله:﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون..﴾ إلى تمام السورة ،وأورد رحمه الله تعالى حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه و أرضاه -و ذكره من ثلاثة طرق والحديث مرّ معنا قريبا و أيضا مرّ الكلام على معناه ، وأنّ من فضائل قراءة هاتين الآيتين كل ليلة كفاية المرء ووقايته من الشرور فإنّ قوله عليه السلام " كفتاه " أي من كل شرّ أي تكفيانه بإذن الله سبحانه وتعالى من كل شرّ، فمن فضائل قراءة هاتين الآيتين الكريمتين من خواتيم سورة البقرة كل ليلة أن في ذلك حفظا للعبد و كفاية و وقاية من كل شرّ.
قال -رحمه الله تعالى-:  أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «هَذَا الْبَابُ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ» قَالَ: «فَنَزَلَ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: " أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُ إِلَّا أُعْطِيتَهُ))
ثم أورد -رحمه الله تعالى- هذا الحديث حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في فضل خواتيم سورة البقرة و الحديث تقدّم معنا قريبا ، أيضا الكلام على معناه في فضل فاتحة الكتاب ، وورد هناك في خاتمته قال: ((وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ))وأن هذه اللفظة كذا وردت والأصوب أنها لن تقرأ و جاءت على صواب في هذه الرواية التي ساقها المصنف -رحمه الله تعالى- هنا و أما الحديث تقدّم الكلام على معناه قريبا.
قال: - رحمه الله تعالى-:  أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلَّهَا لَنَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفَنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَ مِنْهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطَى مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدِي))
ثم أورد -رحمه الله تعالى- هذا الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال :((قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ))
فُضّلنا بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله أي فَضّلنا الله والضمير في قول فُضّلنا: أي أمة محمَّد عليه الصلاة و السلام
وقوله: ((على الناس)): أي على الأمم الذين قبلنا
و قوله: ((بثلاث)) العدد هنا كما نبّه العلماء  لا مفهوم له لأن ما فُضّلت به هذه الأمة في ضوء ما دلّت على ذلك الأحاديث الأخرى الكثيرة في هذا الباب أكثر من هذا العدد بكثير، فالعدد هنا لا مفهوم له ليس حاصرا لفضائل وخصائص هذه الأمة بهذه الثلاثة التي ذكرت وجمعت في هذا الحديث.
 الأولى: من هذه الفضائل لهذه الأمة قال : (جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلَّهَا لَنَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا):  أي إذا لم نجد الماء كما في بعض روايات الحديث : ((إذا لم نجد الماء)).
 فالفضيلة الأولى أنالأرض كلها جُعلت مسجدا، بينما من قبلنا من الأمم لم يكن الأمر في حقّهم كذلك وإنما المسجد يعني -مكان السجود العبادة- هو المواضع و الأماكن المخصصة للعبادة ، أما هذه الأمة أمة محمد عليه الصلاة و السلام فأكرمهم بأن جعل الأرض كلها لهم مسجدا بحيث أينما أدركت العبد الصلاة يُصلي ، بينما الأمم الذين من قبلنا فصلاتهم وعبادتهم إنما تكون في الأماكن المخصصة للعبادة مثل المعبد أو الكنيسة أو نحو ذلك ،
قال: ((وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا)):أي مُطهِّرة وذلك إذا لم يجد الماء ، بينما الأمم قبلنا الطهارة عندهم بالماء و التيمُّم هذا مما أكرم الله -سبحانه و تعالى- به هذه الأمة -أمة محمَّد عليه الصلاة و السلام .

الفضيلة الثانية : قال: ((وَجُعِلَتْ صُفُوفَنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ)): جاء ما يُفسّر ذلك في رواية أبي داوود وغيره قال: ((يُتمّون الصّف المُقدم ثم الذي يليه و يتراصّون في الصّف))فهذه صفة هذه الأمة في صلاتها ، والله سبحانه وتعالى فضّل هذه الأمة ولهذا ترون المسلمين إذا دخلوا المساجد يبتدرون الصفوف الأول ،يملئون الأول فالأول ،بينما الأمم قبلنا لم يكن عندهم هذا الأمر بل مثل ما قال بعض الشراح يُصلون وقوفا كيفما اتفق،بينما هذه الأمة شرّفهم الله سبحانه و تعالى وكرمهم بأنهم يصفّون كما تصُفّ الملائكة بمعنى أنهم يملئون الصف الأول فالذي يليه و يتقاربون في الصفوف ، فتكون صفوف على أتمّ وأجمل ما يكون وهذا مما شرّف الله وفضّل به هذه الأمَّة - أمة محمد عليه الصلاة و السلام.
 و الفضيلة الثالثة: هي موضع الشاهد من سياق هذا الحديث في هذه الترجمة قال: ((وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَ مِنْهُ)):أي هذاالكنز أ((َحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطَى مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدِي)): وهذا دليل على فضل هذه الآيات التي ختمت بها سورة البقرة و أن نبيّنا عليه الصلاة و السلام أعطيها من كنز تحت العرش أي تحت عرش الرحمن- عرشه سبحانه و تعالى المجيد العظيم سبحانه و تعالى
قال: ((وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَ مِنْهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطَى مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدِي)): وأيضا إذا قرأت الآيات ،هذه الآيات التي أعطيها من كنز تحت العرش عليه الصلاة و السلام تجد فيها أيضا من خصائص الأمة هذا التخفيف الذي ذكره الله سبحانه و تعالى في هذه الآيات:﴿ربَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرً‌ا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ أيضا قوله: ﴿ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾و في كل ذلك قال ربنا جل في علاه : ((قد فعلت)) فهذا من الخصائص؛ ولهذا جاء في حديث ((إن الله رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه)) عن أمتي أي هذا من خصائص الأمة أمة محمد فجاءت هذه الآيات من كنز تحت العرش أيضا تحمل فضائل و خصائص لهذه الأمة -أمة محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .

قال:  أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ «خَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ))
ثم ختم -رحمه الله تعالى- هذه الترجمة بهذا الأثر موقوفا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:((خَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ))  و يشهد له حديث حذيفة الذي تقدّم
والحاصل أن هذه الفضيلة عظيمة لما ختمت به سورة البقرة وأنها أنزلت من كنز تحت العرش، ويستفاد من ذلك أهمية العناية بقراءة ما ختمت به سورة البقرة و لا سيما المواظبة على ذلك كل ليلة .
و مما ينبّه في هذا المقام أهمية التدبر للمعاني وأن لا تكون القراءة مجرد قراءة دون تدبر فإن الله جل في علاه يقول: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ و بالتدبر يحصل الأثر و التأثر و الانتفاع بهدايات القرآن، بخلاف  ما إذا قرأ المرء هذه الآيات أو غيرها من آيات القرآن هذَّاً دون تدبر و تأمل و عقل للمعاني
و أختم مجلسنا هذا بكلمة جميلة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- حول هذا المعنى الذي أشرت إليه يقول رحمه الله: ((ومن تدبر هذه الآيات-أي ما ختمت به سورة البقرة-و فهم ما تضمنته من حقائق الدين و قواعد الإيمان الخمس-الإيمان بالله و الملائكة و الكتب و الرسل و اليوم الآخر و قواعد الإيمان الخمس - و الرد على كل مبطل، و ما  تضمنته من كمال نعمة الله على النبي صلى الله عليه و سلم و أمته و محبة الله سبحانه و تعالى لهم و تفضيله إياهم على من سواهم فليهنه العلم))
هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى و إنما يُحصل ذلك بالتدبر و التأمل للمعاني.
نفعنا الله أجمعين بما علمنا و زادنا علما و أصلح الله لنا شأننا كله وهدانا إليه صراط مستقيما ، اللهم آت نفوسنا تقواها و زكِّها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى و التّقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا و لوالدينا و لمشايخنا ولولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم و الأموات، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم متِّعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منَّا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا و لا تسلِّط من لا يرحمنا.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
اللهم صلِّي وسلِّم على نبينا محمد و على آله و صحبه.




(التفريغ قام به متطوعون)

الشريط صيغة mp3
  
مصدر الملف الصوتي : موقع الشيخ

0 التعليقات:

إرسال تعليق