السبيل إلى العزة والتمكين

شرح كتاب فضائل القرآن من السنن الكبرى لإمام النسائي - الدرس الخامس


بسم الله الرحمن الرحيم

شرح كتاب

فضائل القرآن
من كتاب السنن الكبرى للإمام النسائي
(رحمه الله)

للشيخ عبد الرزَّاق البدر
(بارك الله فيه وفي علمه)

الدرس الخامس
ذِكر قُرَّاء القرآن 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد ،
فيقول الإمام أبو عبد الرحمن النسائي-رحمه الله تعالى- في كتابه السنن الكبرى:
ذِكْرُقُرَّاءِالْقُرْآنقال :(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : ثنا خَالِدٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، أنه قَالَ : سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو –رضي الله عنهما- ، فَقَالَ : (( ذَلِكَ رَجُلٌ لا أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : اسْتَقْرِئُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ : عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ)) ، قَالَ شُعْبَةُ : بَدَأَ بِهَذَيْنِ ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : لا أَدْرِي بأيهِمَا بَدَأَ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صل الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا شأنناكله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، أما بعد،
قال الإمام النسائي -رحمه الله تعالى-:ذكر قراء القرآن: أي من أصحاب  النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ممن عُرفوا بذلك إتقاناً وضبطا ًلكتاب الله -عزوجل-، وأورد -رحمه الله تعالى -تحت هذه الترجمة أحاديث بدأها بهذا الحديث: ((عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما - فَقَالَ : " ذَلِكَ رَجُلٌ لا أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : اسْتَقْرِئُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ)وذكر في مقدمهم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- ، تأمل هنا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من محبة لمن عُرفوا بخصال الخير، وخصال الفضلوالعلم والإمامة والعناية بكتاب الله -عز وجل- فإن محبة هؤلاء من أجل القُرب التي يتقرب بها المسلم إلى الله عزوجل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله))، وقال عليه الصلاة والسلام :((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان))وهذا الحديث يدل على أن المحبة في الله مما يُستكمل به الإيمان ، وأن المسلم ينبغي عليه إذا عرف أهل الخير بخصال الخير والفضل والعلم والعناية بالتعليم والدعوة ونحو ذلك أن يحبهم وأن يَعدَّ محبتهم من جملة قربه التي يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- .
قَالَ : " ذَلِكَ رَجُلٌ لا أَزَالُ أُحِبُّهُيعني له في قلبي محبَّة مستمرة
(بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : اسْتَقْرِئُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ)
اسْتَقْرِئُوا:أي القرآن
ومعنى اسْتَقْرِئُوهم :أيسلوهم أن يقرؤوا القرآن ,لأن القرآن أخذه إنما يكون بهذه الطريقة بالسماع والتلقين ، يستمع إليه من الضابط المتقن ويحفظ وفق ذلك، فاسْتَقْرِئُوهم القرآن :أي اسألوهم واطلبوا منهم أن يقرؤوا القرآن لتأخذوه عنهم وتتلّقوه منهم ، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث قال : ((خذوا القرآن عن أربعة)).
ذكر في مقدمة هؤلاء الأربعة عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه –وكان رضي الله عنه كما قال حذيفة بن اليمان- أقرب الناس هدياً ودلَّاوسمتاً برسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ، وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلَّى الله عليه وسلم استمع إلى تلاوته وهو يقرأ سورة يوسف فقال عليه الصلاة والسلام : ((احسنت))وفضائله ومناقبه وشمائله -رضي الله عنه - كثيرة ، وقد مر معنا قريبا إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام : ((من أراد أن يقرأ القرآن غضَّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)): أي عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه .
قال :وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: وقد جاء في سنن ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((الحمدلله الذي جعل في أمتي مثل هذا)): يعني سالم مولى أبي حذيفه رضي الله عنه وأرضاه .
قَالَ شُعْبَةُ : بَدَأَ بِهَذَيْنِ: أي عبدالله بن مسعود وسالم.
قال :وأبي بن كعب:وأبي بن كعب  اشتهر بسيِّد القراء وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((وأقرؤهم لكتاب الله أبي))
وهو الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام -وضرب على صدره- في القصة المعروفة : ((ليهنك العلم أبا المنذر))عندما قال له عليه الصلاة والسلام : ((يا أبي أي آية معك من كتاب الله أعظم ؟))وهو يحفظ القرآن كامل ،جمع القرآن كاملاً، والقرآن آياته تزيد على الستة آلاف آية ، والمطلوب الجواب في الوقفة وقت السؤال ((أي آية معك من كتاب الله أعظم ؟؟))عدد الآيات يزيد عن الستة الآف،والإجابة مطلوبة في الحال وقت السؤال ،((قال قلت الله ورسوله أعلم، قال :يا أُبي أي آية معك من كتاب الله أعظم؟))
وكأنه لمَّا سأله عليه الصلاة والسلام أوطلب من المرة الثانية عرف أن هذا إذن من النبي -صلى الله عليه وسلم -بأن يجتهد في ذكر الآية بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم -، (( قالفقلت :آية الكرسي: ﴿ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾قال :فضرب بيده على صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر)):أي هنيئا ًلك هذا العلم الذي حباك الله به ، ومّن عليك به ،وتفضل عليك به
فأُبيّ رضي الله عنه يعرف بسيد القراء، وجاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال ))وأقرؤهم لكتاب الله أُبي))
قال :وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍأي ممَّن جمعوا القرآن من الصحابة معاذبن جبل -رضي الله عنه وأرضاه -وهو الذي قال النبي صل الله عليه وسلم له وأعادها مرتين: ((يا معاذ إني أحبك فلا تدعنَّ دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك))، وأيضا ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:((معاذ بن جبل أمام العلماء برتوة يوم القيامة))، ومعنى رتوة :أي رمية سهم ، وقيل خطوة، وقيل درجة ، فهذا بيان علو مكانته ورفيع منزلته -رضي الله عنه وأرضاه –وهوالذي بعثه النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً وحاكماًومعلما وداعيا إلى الله سبحانه وتعالى وقال له لما بعثه :((إنك تأتي إلى قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله..))إلى تمام الحديث المعروف ، وكان يُشبَّه رضي الله عنه بإبراهيم الخليل حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه : ((إن معاذ بن جبل أمّة قانتا للهحنيفا ولميكُ من المشركين))يشبهه بخليل الرحمن عليه السلام .

الحاصل أن هؤلاء الأربعة لهم مكانتهم العظيمة ومنزلتهم الرفيعة في كتاب الله عزوجل وقد جمعهم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث (اسْتَقْرِئُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ)
اسْتَقْرِئُوا: أي القرآن ،اطلبوه منهم أن يقرؤوا القرآن ، خذوه عنهم ،تلَقوه عنهم ، استقرئوا القرآن من أربعة وذكر عليه الصلاة والسلام هؤلاء الأربعة .
واستفدنا من كلمة عبدا لله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما -أن محبة هؤلاء من عظيم القُرب التي يُتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بها نسأل الله عزوجل أن يعمر قلوبنا محبةلأصحاب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأن يوفقنا أجمعين لحسن الإقتداءوالإئتساء بهم -رضي الله عنهم وأرضاهم –

وقد ذكر العلماء أن تخصيص هؤلاء الأربعة بالذكر مع وجود غيرهم من الصحابة ممَّن قرؤوا القرآن وجمعوه ،قيل في تخصيص هؤلاء الأربعة أنهم كانوا أكثر ضبطا لألفاظ القرآن، وأكثر إتقانا للأداء قيل ذلك ،  وقيل غير ذلك والله تعالى أعلم .
قال أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : أنا عَبْدَةُ ، قَالَ : ثنا الأَعْمَشُ ، عَنْ شَقِيقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : (( لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً ، وَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ ، قَالَ شَقِيقٌ : فَجَلَسْتُ فِي حِلَقِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَعِيبُ ذَلِكَ ، وَلا يَرُدَّهُ)).
ثم أورد -رحمه الله تعالى- هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقد مر معنا شئ من مناقبه ,وشمائله ,وعنايته رضي الله عنه بالقرآن ,بل وقول النبي صل الله عليه وسلم ((من سرَّه أن يقرأ القرآن رطباً-وفي رواية غضاً-فليقرأه بقراءة ابن أم عبد))-رضي الله عنه وأرضاه .
يقول عبد الله بن مسعود ))لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً: بضعا أي اكثر من سبعين سورة
((وَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ)) هذا ليس من باب الإطراء للنفس ومدحها -وحاشا ابن مسعود وغيره من خيار الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم -أن يكونوا كذلك وإنما حتى يُعرف ما عنده ويُعرف قدر عنايته بكتاب الله -سبحانه وتعالى- وهذا يكون أعون للناس في معرفة قدره  والتلقي عنه  والأخذ منه وقد مر معنا أن النبي صل الله عليه وسلم ذكره في مقدم أربعة قال :استقرئوا القرآن منهم
,فإنما قال ذلك -رضي الله عنه وأرضاه - ذكر هذا عن نفسه حتى يُعرف ، وذِكر المرء بقدر الحاجة عن نفسه في المقام الذي يقتضي ذلك حتى يُعرف بعلم أو يعرف مثلا بإتقان لمسائل معينه فيخبر عن نفسه بذلك حتى يؤخذ عنه ويتلقى منه ، هذا لاحرج فيه ،أما إذا كان الإنسان يثني على نفسه للمفاخرة أو للمراءاة وإطراء النفس ويفعل ذلك عجبا بنفسه هذا لاشك أنه مذموم .الحاصل أن ابن مسعود -رضي الله عنه -أخبر عن نفسه بذلك بقدر الحاجة لإقتضاء المقام ذلك حتى يعرف قدره وتعرف عنايته بكتاب الله سبحانه وتعالى .
وقوله -رضي الله عنه :(لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ)هذا فيه فيه فضل الرحلة في طلب العلم وأيضا فضل الرحلة لتلقي القرآن وهو أفضل ما يُرحل من أجله ، عن أهله المتقنين ،الضابطين ،المحسنين ، ففي هذا فضل الرحلة في طلب العلم , ولهذا قال :(لو أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ) .
قَالَ شَقِيقٌ : فَجَلَسْتُ فِي حِلَقِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَعِيبُ ذَلِكَ ، وَلا يَرُدَّهُ:  يعني ماسمعت أحداًمن الصحابة يعيب هذا الأمر ، وهذه المكانة لابن مسعود -رضي الله عنه -مع كتاب الله عزوجل.

قال أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، قَالَ : ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ ، يَقُولُ:قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَلَى أُبَيٍّ ،قَالَ : وقَالَ لي أُبَيٌّ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أُمِرْتُ أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : قُلْتُ : أَوَ ذُكِرْتُ هُنَاكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ )) ، فَبَكَى أُبَيٌّ ، قَالَ : فَلا أَدْرِي أَبِشَوْقٍ أَوْ بِخَوْفٍ)) .
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : ثنا مَعْمَرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُبَيٍّ –رضي الله عنه-: (( إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : أَوَ سَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ ، فَبَكَى أُبَيٌّ))
ثم أورد -رحمه الله تعالى -عن الربيع بن أنس قال قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَلَى أُبَيٍّ ، قَالَ : وَقَالَ أُبَيٌّ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ )
أُمِرْتُ أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ: (أُمِرْتُ)،إذا قال النبي -صلَّى الله عليه وسلم-(أُمرت) بالبناء لما لم يسمَّ فاعله فالآمر هو الله سبحانه وتعالى، أُمِرْتُ: أي أمرني الله عزوجل
أُمِرْتُ أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ، قَالَ : قُلْتُ : أَوَ ذُكِرْتُ هُنَاكَ أي :ذكرني الله سبحانه وتعالى مثلما سيأتي معنا في الرواية الأخرى((سمَّاني)): أي ذكرني باسمي؛ لأن أن أقرئك القرآن قد يكون أُمر النبي صلَّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ جماعة أو بعض أصحابه القرآن فاختار منهم النبي صلَّى الله عليه وسلم أُبي مثلا
قال :أمرت أن أقرئك: أي :أنت
قال :أَوَ ذُكِرْتُ هُنَاكَ:أي ذكرني رب العالمين في الملأ الأعلى سماني .
قال النبي صل الله عليه وسلم :نعم، وجاء في بعض الروايات ((نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى))وهذا شرف عظيم ..هذا شرف عظيم لهذا الصحابي ومنقبة، جليلة ، علّية رفيعة تدل على علو مكانته-رضي الله عنه وأرضاه –
فَبَكَى أُبَيٌّ:لما أخبره النبي صلَّى الله عليه وسلم أن رب العالمين سماه باسمه ,وقال أقرئه القرآن وفي الرواية الأخرى: ((أن أعرض عليك القرآن)) وفي رواية ((أن أقرأ عليك القرآن))وسماه باسمه، هذه منقبة عظيمة لهذا الصحابي الجليل- رضي الله عنه وأرضاه ,
فَبَكَى أُبَيٌّ ، أي: فَلا أَدْرِي أَبِشَوْقٍ أَوْ بِخَوْفٍ: شكَّ الراوي مالغرض من البكاء ؟ولماذا بكى أبي في هذا الموضع ؟هل بكى شوقاً أو خوفاً ، بكاء اشتياق وفرح بهذه النعمة عملاًبقول الله عزوجل﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس:58]، أو هو بكاء خوف،  والمراد بالخوف هنا الخوف من التقصير ،لما أدرك هذه النعمة وهذا الأمر بكى خوفا من التقصير على شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة ،لكن الأقرب -والله تعالى أعلم -أن بكاءه -رضي الله عنه -كان بكاء فرح ، ولهذا جاء في رواية : ((قيل :يا أبا المنذر ففرحت بذلك)) ، قال :((وما يمنعني والله تعالى يقول﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾))، فالأظهر أن بكاءه -رضي الله عنه -كان بكاء فرح بهذه النعمة وهذه الفضيلة العظيمة، والشرف العظيم الذي حباه الله سبحانه وتعالى ومنّ عليه به .
ثم أورد النسائي -رحمه الله- الخبرمن طريق أخرى: عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُبَيٍّ : (( إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ))
والمرادب (( أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ))أي :بعضه وما تيسَّر منه ، ويطلق القرآن ويراد بعضه﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ ﴾[النحل:98]: أي إن قرأت شيئا من القرآن فاستعذ بالله.
قال : ((إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) جاء في رواية للحديث بلفظ: ((أن أقرأ عليك القرآن))، قال الحافظ ابن كثير في كتابه في السيرة أي : (أي قراءة إبلاغ واسماع لا قراءة تعلم منه)هذا لا يفهمه أحد من أهل العلم،  قال : (وإنما قلت ذلك حتى لا يظن خلاف ذلك)،  وربط ابن كثير -رحمه الله -بين هذا الحديث وبين الحديث الذي مرَّ معنا سابقاً وفيه قال أُبَيٌّ-رضي الله عنه وأرضاه – ((فسُقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية)في قصته لما كان سمع رجل يقرأ القرآن بحرف غير الذي سمعه هو من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ، فأمره النبي صلَّى الله عليه وسلم أن يقرأ فلم يُنكر عليه ، وأمر الآخر أن يقرأ فلم يُنكر عليه ،يقول : (فسُقط في نفسي)يعني  :وقع في نفسي من التكذيب ولا إذكنت في الجاهلية ، ((فلمَّا رأى  رسول الله صلَّى الله عليه وسلمما قد غشيني فضرب على صدري ففضت عرقا ً)).

ابن كثير رحمه الله يربط بين الحديث والحديث الذي بين أيدينا في هذه الترجمة ،يقول - رحمه الله -: (تلا عليه الرسول صلَّى الله عليه وسلم كالتثبيت له والبيان له أن هذا القرآن حقٌ وصدق وأنه نزل على أحرف كثيرة رحمةً ولطفاً بالعباد )، فيرى -رحمه الله تعالى- أن هذه القصة جاءت بعد الأولى التي مرَّت هنا.
قوله في هذه الرواية ((أن أعرض عليك القرآن))، وفي رواية ((أن أقرأ عليك القرآن))، قال قتادة : (أُنبئت أنه قرأ عليه لم يكن) : أي قرأ عليه هذه السورة فقط ،(لم يكن ) سورة البينة ، وجاء الحديث في بعض رواياته أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال:((أن أقرأ عليك ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾)) [البيّنة: 1]، وقيل في تخصيص هذه السورة لكونها جامعة لقواعد الدين وأصول الشريعة وحقائق التوحيد والإيمان والجنة والنار والثواب والعقاب فهي سورة جامعة عظيمة .
قَالَ : أَوَ سَمَّانِي لَكَ:يعني هل ذكرني تعالى بالاسم
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ))نعم))، فبكى أُبي :
- قيل الحكمة من ذلك -أمر الله سبحانه وتعالى أن يقرأ القرآن على أُبَيٌّ - أن تستنّ الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل ، وأن هذا فضل للمرء لا ينبغي أن يأنف من أحد.
- وقيل إن الغرض من ذلك هو التنبيه على فضل أُبَيٌّ ومكانته  ومنزلته، ومرَّ معنا ما  قرره الإمام ابن كثير وما ذكره من ربط بين هذا الحديث والحديث السابق في وجه قراءة أو أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلَّى الله عليه وسلم بقراءة شئ من القرآن أو عرض شئ من القرآن على أُبَيٌّ  -رضي الله عنه -والحديث فيه دلالة على إمامة أُبَيٌّ وفضله وهو مشتمل على منقبة عظيمة لهذا الصحابي الجليل -رضي الله عنه وأرضاه -وعن الصحابة أجمعين.

قال -رحمه الله تعالى- :ذِكْرُالْأَرْبَعَةالَّذينجَمَعُواالْقُرْآنعَلىعَهْدِرَسولِاللهصلَّىاللهعليهوسلم:
قال: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أنه قَالَ: ((جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ : مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزِيدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ )) قُلْتُ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي))

ثم قال الإمام النسائي -رحمه الله تعالى –
ذِكْرُالْأَرْبَعَةالَّذينجَمَعُواالْقُرْآنعَلىعَهْدِرَسولِاللهصلَّىاللهعليهوسلم:
وذكر الأربعة:أي الذين جُمع ذكرهم في حديث واحد ولا يعني ذلك حصر من جمع القرآن من الصحابة في هذا العدد ، ولهذا النسائي -رحمه الله- أورد بعد الحديث المتقدِّم تنبيها على أن ذكر الأربعة في هذا الحديث ليس على وجه الحصر .
أورد عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍقَالَ:جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ ،كُلُّهُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ : مِنَ الْأَنْصَار:وهم أيضا تحديداً من الخزرج الأربعة كلهم من الخزرج: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد وهو ابن ثابت -وقد مرَّ معنا ذكر عما سبق ذكر شئ من مناقبه - رضي الله عنه -وأبو زيد
قُلْتُ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ:أي أنس
أَحَدُ عُمُومَتِي: قيل هو سعد بن عبيد الملقب بسعدٍالقارئ ، وقيل غير ذلك
هؤلاء الأربعة الذين ذكر أنهم جمعوا القرآن أي حفظاً وضبطاً وإتقاناً وحُسن أداءٍ،  لا يعني هذا الحديث حصر من جمعوا القرآن من الصحابة في هذا العدد لكن -والله تعالى أعلم أن- ذكر هذا العدد ممن جمعوا القرآن يراد بهم الخزرج ؛ لأن جاء في بعض الروايات لذكر هذا العدد قصة جاء في بعض روايات الحديث جاء بهذا اللفظ : ((افتخر الحّيان من الأنصار)): الأوس والخزرج ،((فقالت الخزرج جمع منا القرآن أربعة))، وذكر هؤلاء الأربعة ((لم يجمعهم غيرهم))، فكأنه والله تعالى أعلم أن المراد بهذا العدد الأربعة أي: من الخزرج وهم أبي ومعاذ وزيد أي ابن ثابت وأبو زيد أحد عمومة أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- .
هنا أنبِّهعلى فائدة أحسب أنها مهمة وأنه جدير بالتنبيه بها، عندما يقال جمع القرآن ويوصف بذلك ليس المراد بجمع القرآن ضبط الحروف ليس هذا المراد ، وإنما المراد بجمع القرآن أن يُحسن في ضبط حروفه وقراءته وأداءه مع حُسن الفهم للقرآن والعمل به ؛ لأن مجرَّد الإقامة لحروف القرآن مع عدم الفهم وعدم الإقامة لحدود القرآن يكون بذلك القرآن حُجَّة على المرء لا حُجَّة له ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ((القرآن حجة لك أو عليك ))
ولم تكن طريقة الصحابة -رضي الله عنهم في حفظ القرآن -كما هو الموجود في كثير من المقارئ ودور التحفيظ في زماننا -الاشتغال بالتحفيظ المجردفقط للقرآن،ومنذ أن يبدأ الطالب وهو مربوط بإتقان الحفظ، لا همّلمن يقرأه إلا أن يعنى بضبطه لمخارج القرآن وتجويده وترتيله دون عناية بتفهيم المعاني وحثٍ على العمل بكتاب الله سبحانه وتعالى .فجمع القرآن يكون مع الضبط والإتقان للقراءة والأداء مع الفهم لكتاب الله عز وجل والعمل به وهذه التلاوة للقرآن حق التلاوة
 وقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سَّلام في كتابه فضائل القرآن وله مجلد كبير مطبوع نافع جداً وهو من الكتب المعدودة في أوائل ما أُلِّف في هذا الباب- فضائل القرآن-أورد أثرا عظيم النفع في هذا الباب ،أن رجلا جاءبابنه إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه - وقال :إن ابني هذا جمع القرآن ، فرح بما يسره الله لابنه في حفظ القرآن وجاء به إلى هذا الصحابي مخبراً متحدثا بهذا الخير قال :((إن ابني هذا جمع القرآن)) قال أبو الدر داء :((اللهم غفراً )) أي نسألك مغفرة، ((إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع)): أي من جمع بين حُسن السماع أي يعني الذي هو الفهم﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق:37] ،وأطاع : أي عمل بهذا القرآن،  وقد قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى -قال  :((أُنزل هذا القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملا)) .


قال أخبرنا بشربنخالد, قال أخبرنا غندر عن شعبة عن سليمان قال: سمعت أبا وائل عن مسروق عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال ((اسْتَقْرِئُوا القرآن عن أَرْبَعَةٍ : من عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ،ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب ))
هذا الحديث تقدم معنا قريبا لكن المصنِّف أعاده هنا -والله تعالى أعلم -لبيان أن الحديث الذي قبله ليس حاصرا -لمن جمعوا القرآن من الصحابة -رضي الله عنهم ليس حاصرا- في هذا العدد الذي تقدم معنا في الرواية السابقة في حديث أنس وإن جمعه أيضا ًغيرهم من أصحاب النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .

قال رحمه الله تعالى :بابٌ جمع القرآن
قال:أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَيُّوبَ ، قَالَ : ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ : ثنا ابْنُ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ السَّبَّاقِ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، فَأَتَيْتُهُ وَعِنْدَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : (( إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ)) ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ .
ثم عقد -رحمه الله تعالى - هذه الترجمة، باب جمع القرآن: أي  الجمع الذي حصل للقرآن في زمن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه -وهو معدود في مناقبه العظيمة وشمائله وجمع القرآن كله مرتباًبين دفَّتين وبقي هذا عنده -رضي الله عنه وأرضاه –في صحف ثم انتقل منه بعد وفاته إلى عمر -رضي الله عنه- ثم من بعد وفاته كان عند بنته حفصة زوج النبي صلَّى الله عليه وسلم ورضي الله عنها .ومرّ معنا أن عثمان بن عفان في زمانه وإبَّان خلافته وولايته -رضي الله عنه- لما أراد جمع القرآن وجمع الناس على حرف واحد طلب من حفصة أن تعطيه الصحف للنقل عنها والأخذ منها وإعادتها إليها -رضي الله عنها وأرضاها –

وأعاد النسائي–رحمه الله- في هذه الترجمة حديث مّر معنا قريباًفي باب ذكر كاتب الوحي وهو زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وقد أورد النسائي -رحمه الله- الحديث في تلك الترجمة بتمامه؛ ولهذا اقتصر هنا على ذكر طرَف منه وقال : (معاد)أي تقدم ذكره عنده -رحمه الله تعالى- قريباً.

والحديث مّر شرحه ، هناك لكن اشير إلى فائدة تتعلق بزيد بن ثابت ، عرفنا أن وقعة اليمامة -وهي قتال المرتدين -قُتل فيها عدد ليس بالقليل من القرَّاء حتى ذُكرأن من قتلوا من القراء يبلغون السبعين من أصحاب النبي  صلَّى الله عليه وسلم فهو عدد ليس بالقليل ومما ذُكر في كتب السير أن زيداً-رضي الله عنه-زيد بن ثابت- في وقعة اليمامة أصابه سهم ولكن نجَّاه الله تعالىوسلمه منه ، حيث هيَّأه الله عز وجل للقيام بهذا الخير في زمان أبو بكر وأيضا ًمن بعد ذلك في زمان عثمان وإلا أصابه سهم ولكن الله سبحانه وتعالى سلَّمه منه وبقي له عُمر ليحصل هذا الخير الذي أراده الله وادَّخره له -رضي الله عنه وأرضاه- .
سؤال :الإسناد فيه خطأ : (عن عبيد الله بن السباق)، ومرَّ معنا (عبيد بن السباق) .
الشيخ –بارك الله فيه وفي علمه-:نعم- والصواب الأول -الحديث مر معنا الإسناد في الموضع الأول قال عن ابن شهاب عن عبيد بن السبَّاق وهنا فيه زيادة عن عبيد الله بن السبَّاق.


قال -رحمه الله تعالى-:باب سورة كذا سورة كذا

قال:أخبرنا عمران بن موسى قال حدثنا يزيد يعني ابن زُريع قال حدثنا شعبة عن منصور عن ابراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ذُكر لي عن أبي مسعود -رضي الله عنه- فلقيته وهو يطوف بالبيت فسألته فقال :قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : (( مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ ، كَفَتَاهُ)) .

قال:أخبرنا بشر بن خالد قال أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبةعن سليمان عن ابراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن علقمة عن أبي مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال : ((من قرأ الآيتين الآخرتين من البقرة في ليلة كفتاه))

قال عبد الرحمن فلقيت أبا مسعود فحدثني به قال أخبرنا علي بن خشرم قال أخبرنا عيسى عن الأعمش عن ابراهيم عن علقمة وعبد الرحمن ابن يزيد عن أبي مسعود-رضي الله عنه أنه قال :قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: ((الآيَتَانِ الآخرتان  مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ))

ثم عقد -رحمه الله تعالى- هذه الترجمة:بابٌ سورة كذا سورة كذا :أراد -رحمه الله تعالى- بهذه الترجمة صحَّة هذا الإطلاق ، كأن يُقال: سورةالبقرة ، سورة المائدة ،سورة النساء ، هذا الإطلاق صحيح ، ولا يلزم أن يقال السورة التي يُذكر فيها البقرة أو السورة التي يذكر فيها النساء وتُذكر فيها المائدة ، وهذا اطلاق صحيح : باب سورة كذا ، سورة كذا
وجاء عن النبي صلَّى الله عليه وسلمأحاديث تدل على صحة هذا الإطلاق، منها هذا الحديث وقد أورده -رحمه الله تعالى -من طرق:  أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال:(( مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ ، كَفَتَاهُ ))
هذا الحديث يفيد استحباب قراءة الآيتين الآخرتين من سورة البقرة﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ...﴾إلى تمام السورة ، وأن يواظب على هذه القراءة كل ليلة وقد ذكر عليه الصلاة والسلام من ثواب ذلك وفضله أن من قرأهما في  ليلة كفتاه .
ومعنىكفتاهأي من كل شر وسوء
كفتاه:  ايتكفيانهبإذن الله عز وجل وتقيانه من كل شر وسوء فتكون هذه القراءة موجباًلحفظ العبد ووقايته وسلامته من الشر والسوء، هذا هو الصحيح في معنى كفتاه .
وأما معنى من قال كفتاهُ: أي تكفيان عن قيام الليل أو تكفيان عن ماعدا ذلك من الأذكار فهذا غير صحيح وإنما المراد بذلك كفتاه أي :تكفيانه من الشرور والآفات ونحو ذلك ، ففي ذلك فضل المواظبة على قراءة هاتين الآيتين من خاتمة سورة البقرة كل ليلة وأن تكون هذه القراءة عن مواظبه.

وإذا تأمَّلت في هاتين الآيتين تجد أن الأولى فيها ذكر أصول الإيمان التي يقوم عليها دين الله ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:285]، هذه أصول الإيمان التي يُبنى عليها دينُ الله تبارك وتعالى.

* ومن فائدة هذه القراءة لهذه الآية كل ليلة تجديد الإيمان بهذه الأصول، وانتبهوا لهذه الفائدة!تُجدَّد ايمانك بهذه الأصول العظيمة وتستحضرها كل ليلة ،تستذكرها كل ليلة تجديداًلإيمانك، وتقوية لإيمانك بهذه الأصول العظيمة ، والأذكار إنَّما شُرعت لأجل ذلك ، لتقوية الإيمان وتعميق اليقين وتجديد التوحيد ، فعندما يقرأ المسلم كل ليلة: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ﴾كلٌ آمن بالله﴿وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ:هذا الإيمان باليوم الآخر، إضافة إلى الإيمان بهذه الأصول تحقيق الاستجابة والطواعية والامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ، فمع الإيمان بهذه الاصول العظيمة فيه الانقياد والطواعية والامتثال لأمر الله -سبحانه وتعالى- فجمعت الآية بين العقيدة والشريعة ،العلم والعمل ،الاعتقاد والعبادة ،فكم هو جميل المرء المسلم أن يقرأ هذه الآية مستحضراًمجدداًإيمانه.

وأما الآية التي تليها ففيها دعوات عظيمة مباركة تمسُّ حاجة المسلم إلى أن يدعو بها كل ليلة؛ ولهذا لمَّا يقرأها المسلم ينبغي أن يقرأها وهو يستشعر أنه يدعو الله بهذه الدعوات ليس مجرَّد قراءة ، وفعلا ًبعض الناس ينبغي أن يُنبَّه على ذلك ولهذا يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله -قول الله عزوجل:﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6]، قال ينبغي ((أن يُنبَّه العوام أن هذا دعاء))كل مرة تقرأ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾استشعر أنك تدعوا الله بهذه الدعوة العظيمة ، بل هي أعظم الدعوات ؛ ولهذا افترضها الله علينا في اليوم والليلة سبعة عشر مرة .

فالحاصل عندما يقرأ الآية الثانية : ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:286]هذه كلها دعوات يدعو بها المسلم فيستحضر أنه يدعوا الله , وأيضاًيستحضر في الوقت نفسه أنها دعوات مستجابات ولأن صحَّ في الحديث أن الله سبحانه وتعالى قال في هذا الدعاء كله قد فعلت فهي دعوات مستجابات فيدعوا بها المسلم كل ليلة ،وأيضا يستحضر أنها دعوات مستجابة ، استجاب الله -سبحانه وتعالى لمن دعاه بها .
ففي هذا الحديث دلالة على فضل قراءة هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في كل ليلة وأن من قرأ ذلك كفتاه أي :هاتان الآيتان : أي :من كل شر وسوء .
الشاهد من الآية قول نبينا عليه الصلاة والسلام:((من آخر سورة البقرة)) من آخر سورة البقرة فدلَّ ذلك على صحة هذا الإطلاق ، وأنه لا يلزم أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة وإنما يكفي أن يقول سورة كذا سورة كذا .

سؤال :أحسن الله اليك ،التقييد ((في ليلةٍ)) ، الآن الذي يذكر أذكار المساء ربما يذكر ها قبل المغرب فإذن القراءة الآن لا تناسب أن تكون بأذكار المساء لأنه ما دخل الليل .
الشيخ–بارك الله فيه-:الذي يظهر أن هذه ليست من أذكار المساء وإنما يؤتى بهذه القراءة بعد الغروب إذا دخل الليل -ودخول الليل بآذان المغرب - إذا أذّن المغرب فهذا دخول الليل ، فيؤتى بها في  دخول الليل وكلما بادر إليها من أول ليله فهو أفضل حتى تكون هذه الكفاية والوقاية والحفظ معه من أول الليل .


قال:أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلًا فَقَالَ: ((لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا مِنْ آيَةٍ قَدْ كُنْتُ أَسْقِطُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا))

ثم ختم -رحمه الله تعالى بهذه الترجمة بهذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها قالت :سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ًيقرأ في المسجد ليلاً: أي وهو في بيته صلَّى الله عليه وسلم ومعلوم أن بيتهملاصقا  للمسجد فسمع رجلا في المسجد يقرأ ليلاً، معنى ذلك أن قراءته بصوت -يعني بصوت يُسمع- ففي ذلك أن صلاة الليل -صلاة المرء وحده ليلاً- له أن يقرأ فيها بصوت ، وله أن يقرأ سراً، والأولَى الأمكن له في الخشوع والتأمُّل في المعاني والدلالات وكل ذلك دلَّ عليه الدليل، رفع الصوت بالقراءة أو القراءة سراً، له أن يقرأ سراً وله أن يقرأ جهراً مثل ما كان من هذا الصحابي -رضي الله عنه –

قالت: ((سمع رسول الله صل الله عليه وسلم رجلاًيقرأ في المسجد ليلاً))جاء في بعض الروايات التصريح باسمه وهو عبَّاد بن بشر -رضي الله عنه وأرضاه –وجاء في بعض الروايات أن النبي صلَّى الله عليه وسلم لما سمع الصوت قال لعائشة ((أصوت عبَّاد هذا ؟)) قالت :قلت نعم ,قال ))اللهم ارحم عبَّادا))قال :اللهم ارحم عبادا,دعا له بالرحمة .

قال))لقد أذكرني كذا وكذا من آية قد كنت اُسقِطُهن))وجاء في بعض المصادر ((اسقطتهن من سورة كذا وكذا)) قال :لقد أذكرني: النبي صل الله عليه وسلم يسمعه يقرأ فدعا له بالرحمة ،قال :((اللهم ارحم عباداًلقد  قد كنت اُسقطتهن من سورة كذا وكذا))وهذا النسيان نسيانٌ موجود في البشر مثل ما قال عليه الصلاة والسلام ((نسي آدم ونسيت ذريته)) فهذا نسيان موجود في  طبيعة البشر يذهل المرء وينسى حتى النبي صلَّى الله عليه وسلم حصل له ذلك كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: :((اللهم ارحم عباداً لقد  قد كنت اُسقطتهن من سورة كذا وكذا)) والحديث في الصحيحين.

معنى قوله اسقطتهن :أي أنسيتهن وهذا النسيان بمقتضى الطبيعة -طبيعة الإنسان-

*  هذا يستفاد منه فائدة فيمن حفظ القرآن ونسي شيئاً منه هل يأثم أو لا يأثم ؟
ذكر العلماء -وهذا أيضا مما يستفاد من هذا الحديث -أن النسيان لا يخلو من حالتين :

الأولى :ما كان بمقتضى طبيعة الإنسان أنه يقع في النسيان ، يعني لا عن تفريط وإهمال وإضاعة وإنماهو  نسيان بمقتضى الطبيعة هذا لا يُلام عليه .

النوع الثاني من النسيان:إذا كان عن إعراض عن القرآن واهمال وتفريط وعدم مبالاة، فإذا كان بهذا الوصف فهذا عُرضة للإثم ، إذا كان مهملا ومضيعا وغير مبال ومفرِّط فمثل هذا يكون عُرضة للإثم .

نكتفى بهذا القدر ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا أجمعين بما علَّمنا وأن يزيدنا علماً وأن يُصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يغفر لنا ولوالدينا و لمشايخنا ولولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ,اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفَّة والغنى ، اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة  لنا من كل شر ، اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سمَّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا ، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا وعلِّمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا ,اللهم فضلا منك وتكرُّما نسألك أن تجعلنا أجمعين من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ،اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما يقربنا به من جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلِّط علينا من لا يرحمُنا.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

(التفريغ قام به متطوعون)

الشريط صيغة mp3
  
مصدر الملف الصوتي : موقع الشيخ

0 التعليقات:

إرسال تعليق