السبيل إلى العزة والتمكين

الأحد، 24 يناير 2016

مقامات بديع الزمان الهمذاني : المَقَامَةُ السَّاسَانِيَّةُ

المَقَامَةُ السَّاسَانِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَحَلَّتْنِي دِمَشْقَ بَعْضُ أَسْفارِي، فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً عَلى بَابِ دارِي، إِذْ طَلعَ عَلَيَّ مِنْ بَنِي سَاسانَ كَتِيبَةٌ قَدْ لَفُّوا رُؤُوَسُهمْ، وَصَلَوْا بالْمَغْرَةِ لَبُوسَهُمْ، وَتَأَبَّطَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَراً يَدُقُّ بِهِ صدْرَهُ، وَفِيهِمْ زَعِيمٌ لَهُمْ يَقُولُ وَهُمْ يُرَاسِلونَهُ، وَيْدعُو وَيُجَاوبُونَهُ، فَلَمَّا رآني قَالَ:
أُرِيدُ مِنْكَ رَغِيفاً ... يَعْلُو خُواناً نَظِيفاً
أُرِيدً مِلُحاً جَرِيشاً ... أُرِيدُ بَقْلاً قَطِيفاً
أُرِيدُ لَحْماً غَريضاً ... أُرِيدُ خَلاً ثَقِيفَاً
أُرِيدُ جَدْياً رَضِيعاً ... أُرِيدُ سَخْلاً خَرُوفَا
أُريدُ مَاءً بِثَلج ... يَغْشَى إِناءً طَرِيفاَ
أُرِيدُ دَنَّ مُدَامٍ ... أَقُومُ عَنْهُ نَزِيفَا
وَسَاقِياً مُسْتَهَشّاً ... علَى القُلُوبِ خَفِيفَا
أُرِيدُ مِنْكَ قَمِيصاً ... وَجُّبةً وَنَصِيَفا
أُرِيدُ نَعْلاً كَثِيفاً ... بِها أَزُورُ الكَنِيفَا
أُرِيدُ مُشْطاً وَمُوسَى ... أُرِيدُ سَطْلاً وَلِيفَا
يَا حَبَّذَا أَنا ضَيْفاً ... لَكُمْ وَأَنْتَ مُضِيفا
رَضِيتُ مِنُكَ بِهَذا ... وَلَمْ أَرِدْ أَنْ أَحِيفاً
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَنُلْتُهُ دِرْهَماً، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ آذَنْتُ بِالدَّعْوَةِ وَسَنُعِدُّ وَنَسْتَعِدُّ، وَنَجْتَهِدُ وَنَجِدُّ، وَلَكَ عَلَيْنَا الوَعْدُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذا الدِّرْهَمُ تَذْكِرةٌ مَعَكَ، فَخُذِ المَنْقُودَ، وانْتَظِرِ المَوْعُودَ، فَأَخَذَهُ وَصَارَ إِلى رَجُلٍ آخَرَ ظَنَنْتُ أََّنهُ يَلْقَاهُ بِمِثْلِ مَا لَقِيَنِي، فَقَالَ:
يا فَاضِلاً قَدْ تَبَدَّى ... كَأَنَّهُ الغُصْنُ قَدّاً
قَدِ اشْتَهى اللَّحْمض ضِرْسِي ... فَاجْلِدْهُ بِالخُبْزِ جَلْداً
وامنُنُ علَّي بِشَيءٍ ... واجْعَلْهُ لِلْوَقْتِ نَقْداً
أَطْلِقْ مِنَ اليِدِ خَصْراً ... واحْلُلُ مِنَ الكِيسِ عَقْدا
واضْمُمُ يَدَيْكَ لأَجْلي ... إِلَى جَنَاحِكَ عَمْداً
قَالَ عَيِسَى بْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا فَتَقَ سَمْعي مِنْهُ هَذا الكَلامُ، عَلِمْتُ أَنَّ وراءَهُ فَضْلاً، فَتَبِعْتُهُ َحَتَّى صَارَ إِلى أُمِّ مَثْواهُ، وَوَقَفْتُ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يَراني وأَرَاهُ، وَأَمَاطَ السَّادَةُ لُثُمَهُمْ، فإِذَا زَعِيمُهُمْ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَنَظَرْتُ إِليهِ وَقُلْتُ: مَا هَذهِ الحِيلَةُ وَيْحَكَ؟ فأَنشأَ يَقُولُ:
هَذا الزَّمَانُ مَشُومُ ... كَمَا تَراهُ غَشُومُ
الحُمْقًَ فِيهِ مَلِيحٌ ... والعِقْلُ عَيْبٌ وَلُومُ
والمَالُ طَيْفٌ، ولكِنْ ... حَوْلَ اللئَّامِ يحومُ

0 التعليقات:

إرسال تعليق