السبيل إلى العزة والتمكين

الاثنين، 22 فبراير 2016

الحريري صاحب المقامات وعلاقته بأبي زيد السروجي والحارث بن همام

قال القاسم بن علي بن محمد بن عثمان أبو محمد الحريري البصري في مقدمة مقاماته الرائقة الشهيرة :

(.. وبعْدُ فإنّهُ قدْ جرَى ببَعْضِ أنْديَةِ الأدَبِ الذي ركدَتْ في هذا العصْرِ ريحُهُ. وخبَتْ مصابيحُهُ. ذِكْرُ المَقاماتِ التي ابْتَدعَها بَديعُ الزّمانِ. وعلاّمَةُ همَذانَ. رحِمَهُ اللهُ تعالى. وعَزا الى أبي الفتْحِ الإسكنْدَريّ نشْأتَها. والى عيسى بنِ هِشامٍ رِوايتَها. وكِلاهُما مجْهولٌ لا يُعرَفُ. ونَكِرةٌ لا تتَعرّفُ! فأشارَ مَنْ إشارتُه حُكْمٌ. وطاعَتُه غُنْمٌ. إلى أنْ أُنْشئَ مَقاماتٍ أتْلو فيها تِلْوَ البَديعِ. وإنْ لمْ يُدْرِكِ الظّالِعُ شأوَ الضّليعِ. فذاكَرْتُهُ بما قيلَ فيمَنْ ألّفَ بينَ كَلِمتَينِ. ونظَم بيْتاً أو بيتَينِ. واسْتقَلْتُ منْ هذا المَقامِ الذي فيهِ يَحارُ الفَهْمُ. ويفرُطُ الوهْمُ. ويُسْبَرُ غوْرُ العقْلِ. وتتَبَيّنُ فيمَةُ المَرْء في الفضْلِ. ويُضْطَرّ صاحِبُه الى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ. أو جالِبِ رَجْلٍ وخَيْلٍ. وقلّما سلِمَ مِكْثارٌ. أو أُقيلَ لهُ عِثارٌ. فلمّا لمْ يُسْعِفْ بالإقالَةِ. ولا أعْفَى منَ المَقالَةِ. لبّيْتُ دعْوَتَهُ تلبِيَةَ المُطيعِ. وبذَلْتُ في مُطاوَعَتِه جُهْدَ المُستَطيعِ. وأنْشأتُ على ما أُعانِيه منْ قَريحةٍ جامِدةٍ. وفِطْنَةٍ خامِدةٍ. ورَويّةٍ ناضِبَةٍ. وهُمومٍ ناصِبَةٍ. خمْسينَ مَقامةً تحْتَوي على جِدّ القَوْلِ وهزْلِه. ورَقيقِ اللّفْظِ وجزْلِه. وغُرَرِ البَينِ ودُرَرِه. ومُلَحِ
الأدَبِ ونوادِرِه. الى ما وشّحْتُها بهِ من الآياتِ. ومَحاسِنِ الكِناياتِ. ورصّعْتُهُ فيها من الأمْثالِ العربيّةِ. واللّطائِفِ الأدبيّةِ. والأحاجيّ النّحْويّةِ. والفَتاوَى اللّغويّةِ. والرّسائِلِ المُبتَكَرةِ. والخُطَبِ المُحَبّرةِ. والمواعِظِ المُبْكِيةِ. والأضاحيكِ المُلْهِيَةِ. ممّا أمْلَيْتُ جميعَهُ على لِسانِ أبي زيْدٍ السَّرُوجيّ. وأسْنَدْتُ رِوايتَهُ الى الحارِثِ بنِ هَمّامٍ البِصْرِيّ. وما قصَدْتُ بالإحْماضِ فيهِ. إلا تنْشيطَ قارِئِيهِ. وتكْثيرَ سَوادِ طالِبيهِ. ولمْ أُودِعْهُ منَ الأشْعارِ الأجْنبيّةِ إلا بيْتَينِ فذّينِ أسّسْتُ علَيْهِما بُنْيَةَ المَقامَة الحُلْوانيّةِ. وآخَرَينِ توأمَينِ ضمّنْتُهُما خَواتِمَ المَقامَةِ الكرَجيّةِ. وما عدا ذلِك فخاطِري أبو عُذْرِهِ. ومُقْتَضِبُ حُلْوِهِ ومُرِّهِ. هذا
معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ رحِمَهُ اللهُ سَبّاقُ غاياتٍ. وصاحِبُ آياتٍ. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ...) أهـ

وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
 ((الحَرِيْرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ القَاسِمُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ *العَلاَّمَةُ، البَارعُ، ذُو البلاغتين، أَبُو مُحَمَّدٍ القَاسِم بن عَلِيِّ بنِ مُحَمَّد بن عُثْمَانَ البَصْرِيّ، الحرَامِي (1) ، الحَرِيْرِيّ، صَاحِبُ(المقَامَات). وُلِدَ:بقَرْيَة المَشَانِ، مِنْ عمل البَصْرَة.
وَسَمِعَ مِنْ:أَبِي تَمَام مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ بنِ مُوْسَى، وَأَبِي القَاسِمِ الفَضْلِ القصَبَانِي، وَتَخَرَّجَ بِهِ فِي الأَدب.

قَالَ ابْنُ افْتخَارٍ:قَدِمَ الحَرِيْرِيُّ بَغْدَاد، وَقرَأَ عَلَى عَلِيِّ بنِ فَضَال المُجَاشِعِيّ، وَتَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ الصَّبَّاغ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِي، وَقرَأَ الفَرَائِضَ عَلَى الخَبْرِيِّ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْس مائَة، وَحَدَّثَ بِهَا بِجُزْءٍ مِنْ حَدِيْثِهِ وَبِمقَامَاتِهِ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فِيْهَا ابْنُ الخَشَّابِ (2) أَوْهَاماً يَسِيْرَة اعْتذر عَنْهَا ابْنُ بَرِّي (3) .

قُلْتُ:وَأَملَى بِالبَصْرَةِ مَجَالِسَ، وَعَمِلَ (دُرَّةَ الغَوَّاصِ فِي وَهْمِ الخَوَاصِ) (4) ، وَ(المُلْحَةَ) وَشَرَحَهَا (5) ، وَ(دِيْوَاناً)فِي الترسُّل، وَغَيْر ذَلِكَ، وَخَضَعَ لنثره وَنظمه البُلغَاءُ.

رَوَى عَنْهُ:ابْنُهُ؛ أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ اللهِ، وَالوَزِيْرُ عَلِيّ بن طِرَاد، وَقِوَامُ الدّين عَلِيُّ بن صَدَقَةَ، وَالحَافِظُ ابْنُ نَاصر، وَأَبُو العَبَّاسِ المَنْدَائِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ النَّقُّوْرِ، وَمُحَمَّدُ بنُ أَسْعَد العِرَاقِي، وَالمُبَارَكُ بن أَحْمَدَ الأَزَجِي، وَعَلِيُّ بنُ المُظَفَّر الظهيرِي، وَأَحْمَد بن النَّاعم، وَمَنُوجَهر بن تُركَانشَاه، وَأَبُو الْكَرم الكَرَابِيسِي، وَأَبُو عَلِيٍّ بنُ المُتَوَكِّل، وَآخَرُوْنَ.

وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ:أَبُو طَاهِرٍ الخُشُوْعِيّ الَّذِي أَجَازَ لِشُيُوْخنَا، فَعن الحَرِيْرِيِّ قَالَ:كَانَ أَبُو زَيْد السَّرُوجِي شَيْخاً شَحَّاذاً بَلِيْغاً، وَمُكْدِياً (6) فَصِيْحاً، وَرَدَ البَصْرَةَ عَلَيْنَا، فَوَقَفَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَرَام، فَسَلَّمَ، ثُمَّ سَأَلَ، وَكَانَ الوَالِي حَاضِراً، وَالمَسْجَدُ غَاصٌّ بِالفُضَلاَء، فَأَعْجَبتهُم فَصَاحَتُهُ، وَذَكَرَ أَسْرَ الرُّوْم وَلدَه كَمَا ذكرنَا فِي(المقَامَة الحرَامِيَة)فَاجتمع عِنْدِي جَمَاعَةٌ، فَحكيتُ أَمرَه، فَحكَى لِيكُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ شَاهَدَ مِنْهُ فِي مَسْجِدٍ مِثْل مَا شَاهدتُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَعْنَىفِي فَصل، وَكَانَ يُغَيِّر شكلَه، فَتَعجَّبُوا مِنْ جَرَيَانه فِي مَيدَانه، وَتَصرُّفِهِ فِي تَلُوُّنِهِ، وَإِحسَانه، وَعَلَيْهِ بَنَيْتُ هَذِهِ المقَامَات.

نَقل هَذِهِ القِصَّة التَّاج المَسْعُوْدِيّ، عَنِ ابْنِ النَّقُّوْرِ، عَنْهُ.

قُلْتُ:اشتهرتِ المقَامَاتُ، وَأَعْجَبت وَزِيْرَ المُسْترشد شرفَ الدّين أَنوشِروَان القَاشَانِي (7) ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِتمَامهَا، وَهُوَ القَائِلُ فِي الخطبَة:فَأَشَارَ مَنْ إِشَارته حُكْمٌ، وَطَاعته غُنْمٌ.

وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ الرَّاوِي لَهَا بِالحَارِثِ بنِ هَمَّامٍ، فَعَنَى بِهَا نَفْسَه أَخْذاً بِمَا وَرَدَ فِي الحَدِيْثِ:(كُلُّكُمْ حَارِثٌ، وَكُلُّكُم هَمَّامٌ ( فَالحَارِثُ:الكَاسب، وَالهمَّام:الكَثِيْرُ الاهتمَامِ، فَقصَدَ الصِّفَة فِيْهِمَا، لاَ العَلَمِيَّة.

وَبنُو حَرَام:بِحَاء مَفْتُوْحَة وَرَاءٍ، وَالمشَان بِالفَتْح:بُليدَة فَوْقَ البَصْرَة مَعْرُوْفَة بِالوخم.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَان (9) :وَجَدْت فِي عِدَّة تَوَارِيخَ أَنَّ الحَرِيْرِيَّ صَنَّفَ(المقَامَاتِ)بِإِشَارَة أَنو شروَان، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ بِالقَاهِرَةِ نسخَةً بِخَطِّ المصَنّف، وَقَدْ كتب أَنَّهُ صنفهَا لِلوزِيْر جلاَل الدّين أَبِي عَلِيٍّ بنِ صَدَقَةَ وَزِيْرِ المُسْترشدِ، فَهَذَا أَصَحُّ، لأَنَّه بِخَطِّ المُصَنِّفِ.

وَفِي(تَارِيخ النُّحَاةِ(10))لِلْقِفطِيِّ:أَنَّ أَبَا زَيْدٍ السَّروجِي اسْمُهُ مُطهَّر بن سلاَّر، وَكَانَ بَصْرِيّاً لغوياً، صَحِبَ الحَرِيْرِيّ، وَتَخَرَّج بِهِ، وَتُوُفِّيَ بَعْد عَامِ أَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، سَمِعَ أَبُو الفَتْحِ المَنْدَائِيُّ مِنْهُ(المُلحَة)بِسمَاعه مِنَ الحَرِيْرِيّ.

وَقِيْلَ:إِنَّ الحَرِيْرِيّ عَمِلَ المقَامَات أَرْبَعِيْنَ وَأَتَى بِهَا إِلَى بَغْدَادَ، فَقَالَ بَعْضُ الأَدبَاء:هَذِهِ لِرَجُلٍ مَغْرِبِي مَاتَ بِالبَصْرَةِ، فَادَّعَاهَا الحَرِيْرِيُّ، فَسَأَلَهُ الوَزِيْرُ عَنْ صنَاعته، فَقَالَ:الأَدبُ، فَاقترح عَلَيْهِ إِنشَاءَ رِسَالَةٍ فِي وَاقعَةٍ عَيَّنهَا،فَانْفرد وَقَعَدَ زَمَاناً لَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِمَا يَكتُبُه، فَقَامَ خجلاً.
وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَفلح الشَّاعِر:
شَيْخٌ لَنَا مِنْ رَبِيْعَةَ الفَرَسِ ... يَنْتِفُ عُثْنُونَه مِنَ الهَوَسِ
أَنْطَقَهُ اللهُ بِالمَشَانِ كَمَا ... رَمَاهُ وَسْطَ الدِّيْوَانِ بِالخَرَسِ
وَكَانَ يذكر أَنَّهُ مِنْ رَبِيْعَة الفَرَس، وَكَانَ يَعْبَثُ بِلحيته، فَلَمَّا ردَّ إِلَى بَلَده، كَمَّلَهَا خَمْسِيْنَ وَنفَّذهَا، وَاعْتَذَرَ عَنْ عِيِّهِ بِالهَيْبَةِ (11) .

وَقِيْلَ:بَلْ كَرِهَ المُقَامَة بِبَغْدَادَ، فَتَجَاهَلَ، وَقَبَّل صغِيراً بحَلْقَة،وَكَانَ غنِيّاً لَهُ ثَمَانِيَةَ عشرَ أَلفَ نَخلَةٍ.

وَقِيْلَ:كَانَ عفشاً زَرِيَّ اللِّباس (12) فِيْهِ بخل، فَنَهَاهُ الأَمِيْرُ عَنْ نَتف لِحْيته، وَتوعَّده، فَتكلّم يَوْماً بِشَيْءٍ أَعْجَبَ الأَمِيْرَ، فَقَالَ:سَلْنِي مَا شِئْت.
قَالَ:أَقطعنِي لحيتِي.
فَضَحِكَ، وَقَالَ:قَدْ فَعَلْتُ.

وفاته
تُوُفِّيَ الحَرِيْرِيّ:فِي سَادِس رَجَب، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْس مائَة، بِالبَصْرَةِ، وَخلَّف ابْنِيْنَ:نَجم الدّين عَبْد اللهِ، وَقَاضِي البَصْرَةِ ضيَاء الإِسْلاَم عُبيد الله، وَعُمُرُهُ سَبْعُوْنَ سَنَةً.)) (( المصدر ))
 وقال ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" :  ((القاسم بن علي بن محمد بن عثمان ابن الحريري أبو محمد البصري، من أهل بلد قريب من البصرة يسمى المشان، مولده ومنشؤه به، وسكن البصرة في محلة بني حرام، وقرأ الأدب علي أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، ومات ابن الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة عن سبعين سنة، ومولده في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة في خلافة المسترشد، وبالبصرة كانت وفاته، وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبر بها على الأوائل، وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذراً في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصيراً ذميماً بخيلاً مبتلى بنتف لحيته .
قال العماد في كتاب الخريدة: لم يزل ابن الحريري صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي: أخبرني عبد الخالق ابن صالح بن علي بن زيدان المسكي البصري بها في سنة اثنتي عشرة ستمائة في صفر قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي البندهي - قال: وكان يكتب هو بخطه: الفنجديهي قال: وهي قرية من قرى مرو الشاهجان - قال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد يقول: سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السروجي كان شيخاً شحاذاً بليغاً، ومكدياً فصيحاً، ورد علينا البصرة فوقف يوماً في مسجد بني حرام فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضراً والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون. قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا لسائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فضلاً أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته

 قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن ابن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنو شروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها،وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتممها خمسين مقامة.
وحدثني من أثق به: أن الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعاني الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب، أصعد إلى بغداد فدخل يوماً إلى ديوان السلطان وهو منغص بذوي الفضل والبلاغة، محتفل بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا أشهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلماً وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا، فسأله كل واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتم خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أو شروان بن خالد، فأدخله عليه ومال بكليته إليه وأكرمه وناداه، فتحدثا يوماً في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدم ذكره، وأورد ابن الحريري المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنو شروان جداً وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها وينسج عن منوالها عدة من أشكالها. فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم اصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على أنو شروان فاستحسنها وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب فضائله ولا تشاكل ألفاظه وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادعاها لنفسه. وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فإن كان صادقاً في أنها من عمله فليصنع
مقامة أخرى. فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوماً فلم يتهيأ له تركيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسود كثيراً من الكاغد فلم يصنع شيئاً فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويغيطون في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله، وعلموا أنها من عمله، وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس *** ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد *** ألجمه في العراق بالخرس
وقرأت بخط صديقنا الكمال عمر بن أبي بكر الدباس رحمه الله، حدثني علي بن جابر بن هبة الله بن علي حاكم ساقية سليمان قال: حدثني والدي جابر بن هبة الله أنه قرأ على القاسم بن علي الحريري المقامات في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة قال: وكنت أظن أن قوله:
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرا *** ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد دفع الليل الذي اكفهرا *** إلى ذراكم شعثاً مغبرا
أنه سغباَ معتراً، فقرأت كما ظننت سغباً معترا، ففكر ساعة ثم قال: والله لقد أجدت في التصحيف فإنه أجود، فرب شعب مغبر غير محتاج، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أنني قد كتبت خطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.
قال مؤلف الكتاب: ولقد وافق كتاب المقامات من السعد ما لم يوافق مثله كتاب ألفته فإنه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ، وانقادت له نور البراعة حتى أخذ بأزمتها وملك ربقتها، فاختار ألفاظها وأحسن نسقها، حتى لو ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره ولا يرد قوله، ولا يأتي بما يقاربها فضلاً عن أن يأتي بمثلها، ثم رزقت مع ذلك من الشهرة وبعد الصيت والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما
استحقت وأكثر.)) أهـ
وقال القاضي ابن خلكان في "وفايات الأعيان وانباء أهل الزمان" :

((أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي صاحب المقامات، كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت علي شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع هكذا وجدته في عدة تواريخ، ثم رأيت في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب بخطه أيضا على ظهرها: إنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير
المسترشد أيضا، ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى لكونه بخط المصنف، وتوفي الوزير المذكور في رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فهذا كان مستنده في نسبتها إلى أبي زيد السروجي.
وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي وزير حلب في كتابه الذي سماه إنباه الرواة على أنباه النحاه أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصيرا نحويا لغويا، صحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائي الواسطي ملحة الأعراب للحريري، وذكر
أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فسمعتها منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد فوصلها وأقام بها مدة يسيرة وتوفي بها، رحمه الله تعالى وكذا ذكره السمعاني في الذيل والعماد في الخريدة وقال: لقبه فخر الدين، وتولى صدرية المشان، ومات بها بعد سنة أربعين وخمسمائة.
وأما تسمية الراوي لها بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم كلكم حارث وكلكم همام فالحارث الكاسب، والهمام الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل واحد كاسب ومهتم بأموره.
وقد اعتنى بشرحها خلق كثير: فمنهم من طول، ومنهم من اختصر.
ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد وادعاها، فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشيء، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة
ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره - فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح، وقيل إن هذين البيتين لأبي محمد ابن أحمد المعروف بابن جكينا الحريمي البغدادي الشاعر المشهور:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ***  ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما *** رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عن الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة.
وللحريري تواليف حسان منها درة الغواص في أوهام الخواص ومنها ملحة الاعراب المنظومة في النحو، وله أيضا شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، فمن ذلك قوله وهو معنى حسن:
قال العواذل ما هذا الغرام به *** أما ترى الشعر في خديه قد نبتا
فقلت والله لو أن المفند لي *** تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة *** فكيف يرحل عنها والربيع أتى
وذكر له العماد الكاتب في الخريدة:
كم ظباء بحاجر *** فتنت بالمحاجر
ونفوس نفائس *** خدرت بالمخادر
وتثن لخاطر *** هاج وجدا لخاطري
وعذار لأجله *** عاذلي عاد عاذري

وشجون تضافرت *** عند كشف الضفائر
وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرا.
ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه سخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له: اكتب:
ما أنت أول سار نحره قمر *** ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل *** مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل منه وانصرف.
وكانت ولادة الحريري في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي سنة ست عشرة، وقيل خمس عشرة وخمسمائة بالبصرة، في سكة بني حرام وخلف ولدين، وقال أبو منصور الجواليقي: أجازني المقامات نجم الدين عبد الله وقاضي قضاة البصرة ضياء الإسلام عبيد الله عن أبيهما منشئها.
نسبته بالحراني إلى هذه السكة، رحمه الله تعالى، وهي بفتح الحاء المهملة والراء وبعدها ألف بعده ميم، وبنو حرام: قبيلة من العرب سكنوا في هذه السكة فنسبت إليهم.
والحريري: نسبة إلى الحرير وعمله أو بيعه.
والمشان: بفتح الميم والشين المعجمة وبعد الألف نون، بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وإنه كان من ذوي اليسار.
والوزير أنوشروان المذكور كان نبيلا فاضلا جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور ونقل منه العماد الأصبهاني في كتاب نصرة الفترة وعصرة الفطرة الذي ذكر فيه اخبار الدولة السلجوقية نقلا كثيرا، وتوفي الوزير المذكور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمة الله تعالى. )) أهـ

0 التعليقات:

إرسال تعليق