السبيل إلى العزة والتمكين

الخميس، 11 فبراير 2016

من آثار المعاصي

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-:
 
  مِنْ آثَارِ المَعَاصِي :

وَلِلْمَعَاصِي مِنَ الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ، الْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
فَمِنْهَا: حِرْمَانُ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.
وَلَمَّا جَلَسَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ ... وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي
وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الرِّزْقِ، وَفِي الْمُسْنَدِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَمِنْهَا: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا.
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ:
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ... فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْهَا: الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حَامِدَهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا.
ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مِمَّ هَذَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ.
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَدْ لَا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ فِي الْحَالِ
وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ فِي أَمْرِ الذَّنْبِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ ... فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ غُبَارُ
وَسُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ؟ وَكَمْ أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ؟ وَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ؟ وَمَا أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَّالِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ الذَّنْبَ يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ، وَكَمَا يَنْقَضُّ الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ عَلَى الْغِشِّ وَالدَّغَلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: اعْبُدُوا اللَّهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُنْسَى.
وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ، فَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهُ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ وَقِيلَ لَهُ: لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
هَذَا مَعَ أَنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ عَجِبْتُ مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ، ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: مَنْ خَانَ اللَّهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي، وَامْرَأَتِي.
وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ تَلَقَّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ؟
وَمِنْهَا: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يَحِسُّ بِهَا كَمَا يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ، وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، كَأَعْمَى أُخْرِجَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ، وَتَصِيرُ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، أَمَّا وَهْنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ، بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُهُ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ - فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ، كَيْفَ خَانَتْهُمْ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا، وَقَهَرَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ؟
وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الطَّاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ، وَيَقْطَعَ طَرِيقَ طَاعَةٍ أُخْرَى، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ، ثُمَّ رَابِعَةٌ، وَهَلُمَّ جَرًّا، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ مِرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتِ أَطْيَبَ مِنْهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
طُولُ الْعُمُرِ وَقِصَرُهُ
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ الْعُمُرَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نُقْصَانُ عُمُرِ الْعَاصِي هُوَ ذَهَابُ بَرَكَةِ عُمُرِهِ وَمَحْقُهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ بَعْضُ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ تُنْقِصُهُ حَقِيقَةً، كَمَا تُنْقِصُ الرِّزْقَ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ، وَلِلْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ أَسْبَابًا تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ.
قَالُوا وَلَا تُمْنَعُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِأَسْبَابٍ كَمَا يُنْقَصُ بِأَسْبَابٍ، فَالْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ، وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ يَقْضِي مَا يَشَاءُ بِأَسْبَابٍ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا مُقْتَضِيَةً لَهَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: تَأْثِيرُ الْمَعَاصِي فِي مَحْقِ الْعُمُرِ إِنَّمَا هُوَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ حَيٍّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 21] .
فَالْحَيَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَعُمُرُ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إِلَّا أَوْقَاتَ حَيَاتِهِ بِاللَّهِ، فَتِلْكَ سَاعَاتُ عُمُرِهِ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةُ تَزِيدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ عُمُرِهِ، وَلَا عُمُرَ لَهُ سِوَاهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْعَبْدُ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [سُورَةُ الْفَجْرِ: 24] .
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ تَطَلُّعٌ إِلَى مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ كُلُّهُ، وَذَهَبَتْ حَيَاتُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ الْعَوَائِقِ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغَالِهِ بِأَضْدَادِهَا، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُرِهِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عُمُرَ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ وَلَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِإِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَالتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ وَذِكْرِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ.
منقول من كتاب الداء والدواء للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى

0 التعليقات:

إرسال تعليق