السبيل إلى العزة والتمكين

الأحد، 6 مارس 2016

[موعظة] قصة عبد الله ابن المبارك مع الغلام الأسود



قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ :

 " قَدِمْتُ مَكَّةَ وَإِذَا النَّاسُ قَدْ قُحِطُوا مِنَ الْمَطَرِ وَهُمْ يَسْتَسْقُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَكُنْتُ فِي النَّاسِ مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي شَيْبَةَ إِذْ أَقْبَلَ غُلامٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ قِطْعَتَا خَيْشٍ ، قَدِ ائْتَزَرَ بِإِحْدَيْهِمَا وَأَلْقَى الأُخْرَى عَلَى عَاتِقِهِ ، فَصَارَ فِي مَوْضِعٍ خَفِيٍّ إِلَى جَانِبَيَّ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إِلَهِي ، أَخْلَقَتِ الْوُجُوهَ كَثْرَةُ الذُّنُوبِ وَمَسَاوِئُ الأَعْمَالِ ، وَقَدْ مَنَعْتَنَا غَيْثَ السَّمَاءِ لِيُؤَدَّبَ الْخَلِيقَةُ بِذَلِكَ ، فَأَسْأَلُكَ يَا حَلِيمُ ذُو أَنَاةٍ ! يَا مَنْ لا يَعرِفُ عِبَادُهُ مِنْهُ إِلا الْجَمِيلَ ، اسْقِهِمُ السَّاعَةَ ، السَّاعَةَ ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ : السَّاعَةَ السَّاعَةَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِالْغَمَامِ ، وَأَقْبَلَ الْمَطَرُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، وَجَلَسَ مَكَانَهُ يُسَبِّحُ ، فَأَخَذْتُ أَبْكِي إِذْ قَامَ ، فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى عَرَفْتُ مَوْضِعَهُ ، فَجِئْتُ إِلَى فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ ، فَقَالَ لِي : مَا لَكَ أَرَاكَ كَئِيبًا ؟ قُلْتُ : سَبَقَنَا إِلَيْهِ غَيْرُنَا فَتَوَلَّاهُ دُونَنَا . فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَصَاحَ وَسَقَطَ ، وَقَالَ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْمُبَارَكِ ، خُذْنِي إِلَيْهِ . قُلْتُ : قَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَسَأَبْحَثُ عَنْ شَأْنِهِ . فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ وَخَرَجْتُ أُرِيدُ الْمَوْضِعَ ؛ فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى الْبَابِ قَدْ بُسِطَ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي . فَقَالَ : مَرْحَبًا بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَاجَتُكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : احْتَجْتُ إِلَى غُلامٍ أَسْوَدَ . فَقَالَ : نَعَمْ ، عِنْدِي عِدَّةٌ ، فَاخْتَرْ أَيُّهُمْ شِئْتَ . وَصَاحَ : يَا غُلامُ ، فَخَرَجَ غُلامٌ جَلْدٌ ، فَقَالَ : هَذَا مَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ ، أَرْضَاهُ لَكَ . فَقُلْتُ : لَيْسَ هَذَا حَاجَتِي ، فَمَا زَالَ يُخْرِجُ إِلَيَّ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى أَخْرَجَ إِلَيَّ الْغُلامَ ، فَلَمَّا بَصُرْتُ بِهِ بَدَرَتْ عَيْنَايَ ، فَجَلَسْتُ ، فَقَالَ : هَذَا هُوَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ . فَقَالَ : لَيْسَ إِلَى بَيْعِهِ سَبِيلٌ . قُلْتُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : تَبَرَّكْتُ بِمَوْضِعِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لا يَرْزُؤُنِي مِنْهُ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنْ قُوتِهِ . قُلْتُ : وَمِنْ أَيْنَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ؟ قَالَ : يَكْسَبُ مِنْ فَتْلِ الشَّرِيطِ نِصْفَ دَانِقٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَهُوَ قُوتُهُ ، فَإِنْ بَاعَهُ فِي يَوْمِهِ وَإِلا طَوَى ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَأَخْبَرَنِي الْغِلْمَانُ عَنْهُ أَنَّهُ لا يَنَامُ هَذَا اللَّيْلَ الطَّوِيلَ ، وَلا يَخْتَلِطُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُهْتَمٌّ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ أَحَبَّهُ قَلْبِي . فَقُلْتُ لَهُ : انْصَرِفْ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَإِلَى فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَةٍ ؟ فَقَالَ : إِنَّ مَمْشَاكَ عِنْدِي كَبِيرٌ ، فَخُذْهُ بِمَا شِئْتَ . قَالَ : فَاشْتَرَيْتُهُ فَأَخَذْتُ نَحْوَ دَارِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ ، فَمَشَيْتُ سَاعَةً ؛ إِذَ قَالَ لِي : يَا مَوْلايَ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، فَقَالَ : لا تَقُلْ لِي لَبَّيْكَ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ أَوْلَى بِأَنْ يُلَبِّيَ الْمَوْلَى ، قُلْتُ : حَاجَتُكَ يَا حَبِيبِي . قَالَ : أنَا ضَعِيفُ الْبَدَنِ لا أَطِيقُ الْخِدْمَةَ ، وَفِي غَيْرِي كَانَ لَكَ سَعَةٌ ، قَدْ أَخْرَجَ إِلَيْكَ مَنْ هُوَ أَجْلَدُ مِنِّي . فَقُلْتُ : لا يَرَانِي اللَّهُ وَأَنَا أَسْتَخْدِمُكَ ، وَلَكِنْ أَشْتَرِي لَكَ مَنْزِلًا وَأُزَوِّجُكَ وَأَخْدُمُكَ أَنَا بِنَفْسِي . قَالَ : فَبَكَى . فَقُلْتُ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ بِي هَذَا إِلا وَقَدْ رَأَيْتَ بَعْضَ مُتَّصَلاتِي بِاللَّهِ ، وَإِلا ، فَلِمَ اخْتَرْتَنِي مِنْ بَيْنِ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : بِإِجَابَةِ دَعْوَتِكَ . فَقَالَ لِي لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ : إِنِّي أَحْسَبُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَجُلًا صَالِحًا ، إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خِيرَةٌ مِنْ خَلْقِهِ لا يَكْشِفُ شَأْنَهُمْ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلا يُظْهِرُ عَلَيْهِمْ إِلا مَنِ ارْتَضَى . ثُمَّ قَالَ لِي : تَرَى أَنْ تَقِفَ عَلِيَّ قَلِيلًا ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيَّ رَكَعَاتٌ مِنَ الْبَارِحَةِ . قُلْتُ : هَذَا مَنْزِلُ فُضَيْلٍ قَرِيبًا . قَالَ : لا ، هَاهُنَا أَحَبُّ إِلَيَّ ، أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لا يُؤَخَّرُ . فَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْبَاعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَمَا زَالَ يُصَلِّي حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى مَا أَرَادَ الْتَفَتَ إِلَيَّ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قُلْتُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنِّي أُرِيدُ الانصراف . قلتُ : إلى أين ؟ قال : إلى الآخرة . قلتُ : لا تفعل دعني أُسَرُّ بكَ . فَقَالَ لِي : إِنَّمَا كَانَتْ تَطِيبُ لِيَ الْحَيَاةُ حَيْثُ كَانَتِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَعْنِي رَبَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهَا أَنْتَ فَسَيَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُكَ وَغَيْرُكَ ، فَلا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ . ثُمَّ خَرَّ لِوَجْهِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ : إِلَهِي ، اقْبِضْنِي السَّاعَةَ السَّاعَةَ . فَدَنَوْتُ مِنْهُ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ ، فَوَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُهُ قَطُّ إِلا طَالَ حُزْنِي عَلَيْهِ وَصَغُرَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِي

المصدر: (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) لابن الجوزي (8/ 223-225) ، ط دار الكتب العلمية، بيروت.

0 التعليقات:

إرسال تعليق